كان من سياسة عمر بن الخطاب الراشدية، أنه كان يعزل عمّاله، متى رفضه الرعية حتى لو كان أتقى الناس وأعدلهم، فلم يكن يستغني بعدل ولاته وصلاحهم عن رضاء الرعية عنهم.

فقد عيَّن سعد بن أبي وقاص على العراق، فرفع أهل العراق شكاية ضد سعد إلى عمر، فعزله عمر، بالرغم من أنه حقق في شكاية أهل العراق ضده، واستمع إلى مرافعة سعد، وأثبت سعد براءته من الشكوى التي رمي بها، إلا أن ذلك لم يشفع لسعد عند عمر.

فعن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال: «شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر بن الخطاب، فعزله، واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال: أما أنا فوالله إني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، لا أخرم عنها: أصلي صلاتي العشي، فأركد في الأوليين، وأخفف في الأخريين، قال: فإن ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلا – أو رجالا – إلى الكوفة، يسأل عنه أهل الكوفة، فلم يدع مسجدا إلا سأل عنه؟ ويثنون عليه معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة – يكنى أبا سعدة – فقال: أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله، لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياءا وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، فكان بعد ذلك إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد»

قال عبد الملك بن عمير – الراوي عن جابر بن سمرة – فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق، فيغمزهن[1].

وقد عزل عمر سعدًا لنقمة بعض أهل الكوفة عليه، حتى لو توصلوا إلى غايتهم بكذب واضح، إلا أن كذبهم لا ينفي عدم رغبتهم فيه واليًا عليهم. وقد كان من مآثر سعد ومناقبه :

– أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة.

– أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يكون مجاب الدعوة، وقد كان.

– أن سعدًا نفسه هو الذي فتح العراق.

– أنه كان من السابقين إلى الإسلام.

– أنه خال النبي صلى الله عليه وسلم.

بين عمر ومعاوية

وعلى صعيد آخر، بلغ عمر بن الخطاب أن معاوية بن أبي سفيان، عامله على الشام، كان قد توسع  وأسرف في اتخاذ مظاهر الأبهة والزينة وغالي الثياب، فاستدعاه عمر ليحاسبه عن هذا التوسع، فأجاب معاوية بأن ذلك أرهب في قلوب الروم، الذين يعظمون هذه المظاهر الدنيوية، وأن هذه المظاهر تزعهم عن التفكير في غزو المسلمين؛ إذ إن مقايييسهم مادية بحتة.

فحين قدم عمر الشام وافاه معاوية بموكب عظيم أنكره عليه عمر فقال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال له عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب[2]الضرس، لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين قال: لا آمرك ولا أنهاك.[3]

ولم يقتنع عمر بوجاهة هذا التبرير من معاوية  اقتناعا كاملا، وكان له بعض المآخذ  على معاوية، إلا أنه بعد هذه المحاسبة ردَّه إلى الشام واليًا، ولم يعزله؛ لرضا أهل الشام به، وعدم شكايتهم منه.

وهذان الموقفان المتباينان من عمر إزاء سعد ومعاوية، إنما يدل على تعزيز سلطة الأمة في اختيار حكامهم وأمرائهم[4]، فقد أنزل عمر نفسه منزل الوكيل عن الأمة، والوكيل إنما هو منفذ لأمر موكله، فإذا اختار أهل الشام معاوية، فلا يسعه إلا أن يلبي اختيارهم، حتى لو كان لعمر بعض المؤاخذات الخفيفة تجاه معاوية في خاصة نفسه، متى لم  تتجازو هذه المؤاخذات  خاصة نفسه، فعمر هنا ، وبهذا المقياس لا يتصرف  تصرف الأصيل عن نفسه، بل يتصرف تصرف الوكيل عن  الشعب.

وإذا  رفض أهل العراق كلهم أو بعضهم سعدا، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأصروا على شكايته وعزله، فلا يملك عمر إلا أن يستجيب  لهذا المطلب، فهكذا الوكيل، يتصرف حسب أوامر الموكل.

قال الإمام مالك: عزل عمر سعدا وهو أعدل من يأتي بعده إلى يوم القيامة، والذي يظهر أن عمر عزله حسما لمادة الفتنة، ففي رواية سيف: قال عمر: لولا الاحتياط وأن لا يتقى من أمير مثل سعد لما عزلته.[5]

فإذا أبقاه عمر بعد نشر هذه الشائعات عنه سيأتي من بعد سعد أمراء ربما لا تكون ذممهم المالية سليمة ولا يعدلون في القضايا ولا يقسمون بين الناس بالسوية، فيقولون أن سعدا كان يفعل ذلك وتركه عمر فنحن نصنع ذلك ولا يضرنا شيء فنظر عمر باجتهاده رضي الله عنه إلي مآلات الأمور حفاظا علي دين الناس ودنياهم.

تفسيرات أخرى

ومن التفسيرات التي ذكرها العلماء في سبب عزل عمر لسعد، غير الذي ذكرناه قبل، ما قيل من أن مذهب عمر أنه لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين .[6]

وهذه سنة عمرية راشدية أخرى، من السنن التي يجب التأسي بها لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنن الخلفاء الراشدين. ومما قيل في تفسير هذه السنة : أنها تمنع استغلال الولاة لمناصبهم، وتمنع محاباة الناس لهم إذا علموا أنهم مستمرون في مناصبهم، أو أنهم ماكثون فيها مكثا طويلا، فإذا كانت مدة ولايتهم مؤقة هذه المدة القصيرة، فإن الرعية لن تخشاهم، ولن يستطيل الولاة على الرعية لخوفهم من العزل.[7]


[1] – متفق عليه. جامع الأصول (9/ 15)

[2] – الرواجب: جمع راجبة: وهي ما بين عقد الأصابع من داخل أي: أضيق ما يكون.

[3] – البداية والنهاية (11/ 416).

[4] – تحرير الإنسان، ص 450، الدكتور حاكم المطيري.

[5] – فتح الباري لابن حجر (2/ 240)

[6] – فتح الباري لابن حجر (2/ 240)

[7] – تحرير الإنسان، ص 451، الدكتور حاكم المطيري.