نتابع في هذه الحلقة  المقدمات المنهجية لبناء مفهوم الاجتهاد المعرفي، ونتناول هنا مفهوم المعرفي، وأبعاد مفهوم المعرفي لعلمية الاجتهاد التي نؤطر لها في هذا الطرح التأسيسي.

مفهوم المعرفي

نعني “بالمعرفي” – الشطر الثاني في هذه المقدمة المنهجية لمفهوم الاجتهاد المعرفي- المعنى الواسع الذي تشير إليه، بمعنى كل ما يتعلق بالكليات والشمول أو القواعد والقوانين المؤسسة .. “فالمعرفي: معناها الواسع هو”الكلي والنهائي”، و”الكلي” مقابل “الجزئي” هو ما ينسب إلى الكل، و”الكل” في اللغة اسم لمجموعة أجزاء الشيء، وكلمة “كلي” تفيد الشمول والعموم…وتشمل – أيضًا – كل شيء في جوانبه كافة…أما كلمة “نهائي” فهي كلمة منسوبة إلى “نهاية”، ونهاية الشيء غايته وآخره وأقصى ما يمكن أن يبلغه الشيء، فالنهائي يحوى في طياته الغائي”.([1])  فالمعرفي إذن يتعلق بالكليات والغايات الكبرى للأشياء، والقواعد والمبادئ والعلل التي تكمن خلف حركة الأشياء والإنسان، أو التي تدفع حركته وتشكلها.

وما نطرحه في هذه المقدمة المنهجية يختلف في الدرجة والاتساع عن المفهوم الشائع في الذهن المعاصر لمفهوم الاجتهاد الذي يبحث – كما ذكرنا – في سلوك المكلَف وماهيته وكيف يكون مطابقًا للشرع في موقف ما. فالاجتهاد الذي نقصده هنا هو الذي يتعلق “بالمعرفي” أي بما يقوم به العقل البشري من عمليات ينتج عنها تنظيرٌ وتطويرٌ لعناصر لحركة والمعرفة الدافعة لتلك لحركة سواء كانت تلك المعرفة مستمدة من الوحي أو مصادر الفكر البشري النافع بما يحقق صالح الإنسان، وعمران الكون. وينشغل في ذلك بكليات المعرفة وقواعدها نقدًا وتأسيسًا وتطويرًا في كل ما يحقق مقاصد الحق في الخلق ( التوحيد والتزكية والعمران والعدل) ويوفي متطلبات الاستخلاف الإنساني بكل ما تحمله من شروط وصفات ووظائف.

     الاجتهاد كنهج معرفي

ومن أقرب المفاهيم لهذه المقدمة المنهجية المفهوم الذي قدمه علي شريعتي (1933-1977م) حول الاجتهاد باعتباره مفهومًا رائدًا للاجتهاد المعرفي يصلح معيارًا لمعايرة الإنتاج المعرفي للأعمال الفكرية والإصلاحية التي تقدم في مسار بناء نهضة الأمة.

دعا شريعتي – في هذا المفهوم الذي طرحه – إلى الاجتهاد ليس في ميدان الفقه فقط وهو المعنى القريب لهذا المفهوم- كما ذكرنا- وإنما إلى اعتبار الاجتهاد يماثل حركة التجديد وفي الأمة وفي المنظومة الثقافية الإسلامية في مداها الواسع والذي يبدأ من الفقه ثم يمتد لحركة النشاط الإنساني كله، لذا فإن “المجتهد” كما يراه يُعد “قائدًا لعملية التنوير والهداية في المجتمع لابد وأن يتمتع – بالإضافة إلى الشروط التقليدية- بالإدراك العلمي للعصر، والرؤية المستقبلية، أما “المجتَهَد فيه” فيشمل عند شريعتي كل الأحداث الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنسانية”. ([2])

يرى شريعتي- أيضا- أن حقيقة الاجتهاد تكمن في أن القوانين والمقررات العامة للشريعة وأحكام الفقه المدونة قد لا تستوعب جميع الحالات الاجتماعية بالتفصيل نظرًا لتعدد خصوصيات الزمان والمكان وتبدلها وتبدل النظم الاجتماعية التي تنبثق عنها، ما يجعل الحاجة ملحة لفتح باب الاجتهاد المتحرك لكي يلبي المجتهد عبر تلك المتطلبات المستجدة، ويتاح هذا العمل للمجتهد المحقق المتفتح في عقله وتفكيره، فيعكف على استنباط الأحكام على حسب القواعد العامة، ومع الأخذ بعين الاعتبار روح الشريعة السمحاء وأهدافها وخصالها الكلية من العدل والمساواة …ليخرج بأحكام وفتاوى تتلاءم مع الواقع الراهن وقادرة على تلبية وإشباع الطلبات المتنوعة للتزود بأحكام الشريعة في مختلف الوقائع وفي كافة المجالات القضائية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

الاجتهاد كنهج معرفي يُقصد به -أيضًا- موقف عام وكلي نحو قضايا الحضارة وعوامل النهضة ومقوماتها، والبحث عن حلول فاعلة لأهم المعيقات التي تقف في سبيل البناء الحضاري المنشود للأمة من فقه الواقع ودراسته بصورة علمية ومنهجية بما يمكن الأمة من تجاوز تلك العقبات والقدرة على تشييد حضاري جديد من خلال الإطار الإسلامي.

إن الاجتهاد هو البحث العلمي بحرية من قِبَل باحث مسؤول، وليس الباحث الذي يريد أن يكشف الحقائق من أجل الكتب والمختبرات والجامعات، بل الباحث الذي يقوم ببحثه من أجل الناس، ومصير الناس، والفهم الأفضل للعقائد، والعرض الجديد للحلول، والاستجابة لمطالب العصر، وطرح ضروريات الحياة الاجتماعية، وتنوير مجتمعه وهداية الناس…، والاجتهاد هو المسؤولية المتميزة والثقيلة والإدراك العلمي للعصر تطويرًا بحسب تقدم العلم ووعي الناس، ويجعل تطبيق الإسلام ممكنًا، يجيب حاجة العصر وبميزان يُيَسر إمكان كشف وفهم أفضل لتلك الحقائق، وأهم من كل هذا أن الرسالة العظيمة للعالِم أنه يجب أن يقدم أحكامًا وتفسيرات، وفهمًا جديدًا مناسبًا للعصر، ومناسبًا لضروريات أهل هذا العصر وجيله،…وأن يقوم [ المجتهد] باستنباطها واستخراجها بحسب حاجة العصر الذي يعيش فيه، وحركته وضرورياته كما يجب…ولا يتخلف عن عصره وهذا يعني أن لا يقعد الفقيه، بل لابد من القيام بكشف الحوادث الجديدة للعصر وإيجاد إجابة إسلامية لها… وهذا المبدأ يدل كيف يتنبأ الإسلام بقضية العصر، والحركة والتغيير، والتطور والتجديد خلال العصور التاريخية، واعتبار الواعين وعلماء الإسلام مسؤولين بالنسبة لها ..

والحوادث الجديدة بشكل عام هي كل الأحداث الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، من قبيل: الاستعمار القديم والجديد، الآلة ، غربة الإنسان المعاصر، البيروقراطية، التكنوقراطية، الفاشية، الديمقراطية، الدستور، السينما، التليفزيون، الاشتراكية، الرأسمالية، الصهيونية، قضية فلسطين، القومية في المجتمع الإسلامي، حركة الهيبي، تمرد الجيل الشاب، التخلف، العلاقة بين الشرق و الغرب، تغرب التكنولوجيا وسيادة الآلة، الغزو الثقافي، محو الثقافة عند المفكرين، البورجوازية الوسيطة، المادية، أزمة الدين، تزلزل الأسس الأخلاقية والتفسخ الاجتماعي، الانقطاع التاريخي، الحضارة والعصرية، حرية المرأة، مشكلة الجنس، تبرئة اليهود على يد البابا من الاتهام بالشروع في قتل المسيح -عليه السلام- بعد ألفي عام، والجوع، والاستغلال الطبقي الجديد، وتغير العلاقات الطبقية، والثورة الاقتصادية، والآداب والفنون الجديدة، والأيديولوجيات المعاصرة القوية التي تولد الإيمان..كل هذه حوادث مستحدثة وقضايا مستحدثة يتصل بها المجتمع الإسلامي في أبعاد مختلفة، أو يصطدم بها، وعلى العالِم الإسلامي الواعي المسؤول أن يطرح هذه القضايا برؤية إسلامية وعلى أساس من الأصول العلمية. ([3])

أما جمال الدين عطية (1928-2017) فيرى أن عملية الاجتهاد المعرفي هي عملية تفاعل بين الإسلام وبين الواقع المعاش، ذلك التفاعل الذي يحاول من خلاله المثال أو النموذج الإسلامي أن يتمثل في الواقع، وتتضمن عملية التفاعل بدورها ثلاثة عناصر هي: ([4])

– النظرة الكلية للإسلام عن الله والكون والإنسان وما ينبثق عن ذلك من مفاهيم العبادة والخلافة والعمران والأمانة والاختيار والإرادة وغير ذلك، مما ينعكس بالضرورة على أي تصور جزئي في أي مجال من مجالات الحياة.

– القيم الضابطة للسلوك الإنساني والتي يطلق عليها الجانب المعياري في كل علم من العلوم، أو أخلاقيات المهن المختلفة.

– الجوانب الموضوعية أو المعرفية المستمدة من مصادر الفكر الإسلامي.

وهذه العملية التفاعلية هي جوهر الاجتهاد المعرفي والتي سارت في حركة الإصلاح المعرفي في عدة مسارات رئيسة هي: محاولات تطوير المناهج المستخدمة أو المقترحة من أجل تحويل المبدأ أو المثال إلى واقع معاش، طرح بعض جوانب التطبيقات العملية في العلوم المختلفة، طرح أفكار ورؤى لتطوير العلوم الشرعية، وإصلاح مناهج الفكر.

ويرى عبدالحميد أبوسليمان ( 1955) أن الاجتهاد عملية فكرية منظمة في إطار علمي ومنهجي داخل الإطار الفكري للأمة يهدف إلى التجديد الحضاري للأمة من خلل عملية تنويرية معرفية مقصودة “إن الاجتهاد الذي يؤثر في مسيرة الأمم وخاصة في هذا العصر الذي تعقدت فيه قضايا الحياة ونظمها وتسارعت حركة التغيير فيها، إنما هو في حقيقته نتاج لفكر الأمة بمختلف قطاعاتها الفكرية، وما يقوم به من دراسات وأبحاث منهجية، والمجتهد بهذا المفهوم، فرد يسهم بفكره في الحركة الفكرية العامة للأمة مستندًا إلى منهجية علمية سليمة تنبثق عن الأصول الفكرية للأمة وثقافتها وقيمها وإدراك أحوالها ومشكلاتها، وهذا يجعل المجتهد قادرًا على العطاء الفكري المبدع، ضمن حركة تاريخية لا فلتة عشوائية”. ([5])

والاجتهاد المعرفي في ضوء ذلك منهجية علمية ينبغي أن تنتظم في نظام الأمة التربوي ليمثل حركة عامة للأمة نحو قضاياها المختلفة ونحو عوائق نهوضها الحضاري، ينضم فيه كل عناصر العملية الثقافية في الأمة من مواد خام فكرية ومصادر تنظير، وعناصر بشرية أو الكوادر التي تضطلع بتلك المهمة.

 


([1]) عبد الوهاب المسيري: “أهمية البحث في النظام المعرفي”، في: فتحي حسن ملكاوي (تحرير): نحو نظام معرفي إسلامي..حلقة دراسية، عمان،  المعهد العالمي للفكر الإسلامي, 2000م ص42.

([2]) حسان عبد الله حسان: منظومة المفاهيم عند علي شريعتي، القاهرة, دار الفكر العربي، 2015م, ص 58.

([3])علي شريعتي: عن التشيع والثورة، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا, القاهرة, دار الأمين 1996م، ص261 – 264.

([4])جمال الدين عطية: إسلامية المعرفة الخبرة والمسيرة, القاهرة, دار الفاروق,2009, ص8-9.

([5]) عبدالحميد أبوسليمان:”معارف الوحي: المنهجية والأداء”, مجلة إسلامية المعرفة, العدد(3), السنة الأولى, يناير 1996, ص 103.