من المصطلحات التي أصبحت الحاجة ملحة لتحديد مفهومها مصطلح (العَالِم) بمفهومه الشرعي، والذي يحيل في المخيال الاجتماعي والثقافي الإسلامي إلى قيمة عليا تتناسق في صورتها المتخيلة معاني الربانية والوعي وإدراك خطر المسؤولية والموقف.

وتأتي الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم (العالم الشرعي) من عدة مقتضيات أهمها هو الإرباك الذي أصبحت المؤسسة الدينية الرسمية تسببه للوعي المجتمعي بمواقفها السياسية التي تجعل الحاكم مصدرها التشريعي، مع ما يرتكز في المخيلة من تبجيل “العالِم” واعتبار نقد مواقفه تجاسرا على شرع الله بالتجاسر على ممثليه، مما يقلب ترتيب القيم الإسلامية التي تنظر القول قبل قائله، وتؤكد أن “حق الحق مقدم على حقوق الخلق”، وأيم الله إن العالم لمبجل ما أقام نفسه في مواقف الكرامة والاحترام للشرع، لكن ما بالنا إذا أصبح مؤصلا لفجور الظلمة واستبدادهم ورعوناتهم الأخلاقية والتدبيرية؟.

أخذ مصطلح “العالم الشرعي” مكانة سامقة التاريخ إسلامي استنادا إلى جملة من النصوص الشرعية قرآنا وسنة أثنت على العلم وأهله، ولا جدال فيما للعلم من مكانة وقيمة، لكن تلك النصوص في غالبها لم تفصل طبيعة “العلم” المقصود، هل هو علم الشريعة حصرا أو أن أي علم يوقف صاحبه على معرفة أكبر بجلال الله وسعة ملكه وملكوته يعتبر داخلا في هذا المفهوم؟ ولست بحاجة إلى التنبيه إلى فضل علم الشريعة وأنها أم العلوم والمعارف، وقد كفانا الذين كتبوا في مراتب العلوم مؤونة ذلك.

هناك أسئلة مهمة يلزم طرحها من قبيل هل العالِم الذي وردت النصوص بمكانته هو الذي يعرف أحكام الشرع أم يلزم لتحليه بتلك المكانة أن يكون عاملا ورعا متحريا للحق؟ كيف نستطيع التفريق بين عالم السوء وعالم الحسنى؟ وهل تمجيد النصوص الشرعية لحملة الشرع مطلق أم لنمط خاص منهم؟

عند العودة إلى كلام المفسرين في الآيات التي تتحدث عن العلماء ومكانتهم سنجد أنهم لا يربطون ذلك بعلم الشريعة كما درجت العامة على ذلك، بل يحددون مؤشرات تتجه نحو الإيمان بالله وخشيته قبل أن تتجه نحو المعرفة النظرية، بل قد نجد أن بعض الآيات التي يستدل بها الوعاظ كثيرا على أنها نص قاطع في أهل العلم، سنجد أن الراجح من معناها أنها ليست على ذلك الوجه، فماذا قال المفسرون في قوله تعالى: ” شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”،

ذهب كثير من السلف إلى أن المقصود بـ”أولو العلم” في هذه الآية هم عامة المؤمنين، لأنهم شهدوا بوحدانية الله، وقد رجح القرطبي هذا الرأي فقال: “وقال الْكَلْبِيُّ: الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ عَامٌّ”، بينما ذهب آخرون إلى ربط العلم هنا بمعرفة الله أي خشيته والخوف منه، فقال أبو طالب وسفيان بن عيينة كما نقل ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره: “مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَشَهِدَ بِمَا شَهِدَ بِهِ اللَّهُ فَهُوَ الْعَالِمُ”، كما نجد ملمحا آخر من تفسير هذه الآية يدلنا على أنها مطلقة من أي قيد؛ وهو أن المتصوفة يرون المقصود بـ”أولو العلم” هم ” أولياء بنى آدم إذ علموا جلال قدرته، وعرفوا نعت عزته فأكرمهم حيث قرن شهادته بشهادتهم ” كما روى القشيري في لطائف الإشارات، أما الزمخشري في كشافه فيرى أنهم المعتزلة، ويعلل ذلك بأنهم “هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل والتوحيد”

وإلى نحو ما سبق من تأويل ذهب المفسرون عند حديثهم عن قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، وقد اهتدى الشعراوي إلى توجيه سياقي لا يخلو من عمق وهو أن الأقرب في هذه الآية أن يكون المقصود بالعلماء فيها علماء الجيولوجيا، لأن السياق كان يتحدث عن بديع صنع الله في الأرض من جبال ونبات، ومع معرفتنا بأن هذا تحكم بغير دليل إلا أن معرفة قدرة الله وسعة ملكه وبديع صنعه غير مرتبطة بعلم الشرع فقط بل قد يكون العالم الفلكي أو الفيزيائي أكثر اطلاعا على ما يبعث الإيمان والخشية من عالم الشرع.

وفي هذا النسق التأويلي ينبغي أن تدرج كل النصوص القرآنية والحديثية التي تثني على العلم وأهله، أما التحكم في دلالتها ومنحها حصرا لعلماء الشريعة فذلك ما لا تسعفه الدلالات السياقية للنصوص ولا ينسجم مع الرؤية الشمولية للإسلام والتي أقرتها النصوص والمقاصد الشرعية.

وهناك كلمة مأثورة عن الإمام مجاهد بن جبر (104هـ) قد تسعف في هذه المحاولة لتحديد المفهوم أو تمييز المصطلح، لولا أن مصطلح (المتكلمون) قد أصبح حكرا على حملة منهج تفكيري معين، فقد جاء في كتاب “العلم” لزهير بن حرب (230هـ) بسنده عن مجاهد قوله: “ذهب العلماء فلم يبق إلا المتكلمون، وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم”، ومن المعروف أن مصطلح (المتكلمون) بدلالته الشائعة لم يكن مستعملا في زمن مجاهد، فالواضح أنه يقصد به العلماء غير العاملين.

تأسيسا على ما سبق فإن مفهوم العلم والعلماء الشرعيين في النصوص الشرعية يجمع جملة جزئيات تترتب كالتالي: الخشية – الوعي – المعرفة النظرية) وترتبط هيه الجزئيات بعضها مع بعض بحيث لا يصدق وصف (العالم الشرعي) ولا يحصل وقار المكانة العلمية بدونها، ولذلك قال الْخَوَّاص: “لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنَ اتَّبَعَ الْعِلْمَ وَاسْتَعْمَلَهُ، وَاقْتَدَى بِالسُّنَنِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ”.

وقد نبه الإمام ابن القيم إلى خطر مسؤولية العالم وعظم الدور الذي يؤديه في المجتمع حينما اعتبره (مُوَقِّعًا عن الله)، بما تحمله كلمة التوقيع عن الله من دلالة تثير الرهبة والخشية، وذلك عنوان كتابه القيم “إعلام الموَقِّعين عن رب العالمين”.

وقد ترد هنا اعتراضات وجيهة من قبيل أن هذا الطرح ينطلق من عصمة العالم الشرعي وأنه لا يخطئ، كما تفتح الباب واسعا للتهوين من مكانة علماء الشريعة ومن ثم مكانة الشريعة ذاتها، وليس هذا هو المقصود بهذا المقال، بل المقصود هو أن يتحدد بشكل حاسم من هو العالم الذي منحته الشريعة هذه المكانة؟ وهل تحصيل المعارف النظرية يجعل الإنسان “عالما شرعيا” له كل حقوق العالم في الشرع حتى ولو كان لا يزن أحكامه بالشرع الذي تضلع به؟

أعرف أن في المسألة إشكالات كثيرة ومثيرة، ولكن إغفال بحثها وإثارتها إسهام لا إرادي في استمرار ارتباك وعي الأمة التي تجد نفسها بين نصوص تفرض احترام العالم وبين علماء لا يقفون إلا مواقف تخزي العلم وأهله.