قد أجرى الله -سبحانه وتعالى- على كل أمة من الأمم السابقة سنة كونية؛ فقد كانت سنة الإهلاك والأخذ بالذنب تطال المكذبين بالرسل في الحياة الدنيا قبل عذاب الآخرة.

وهذا الأخذ بالذنب قد يصل لدرجة الاستئصال؛ فيكون الأخذ عامًّا وشاملاً للجميع، مثلما حدث في الطوفان بعد دعاء سيدنا نوح حينما قال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾[نوح: 26].

ولقد تنوعت أشكال الإهلاك، والتي قد عدّدها -تعالى- في قوله: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[العنكبوت: 40].

وسنة الإهلاك بالاستئصال قد عصم الله -تعالى- منها هذه الأمة المرحومة، إلا أنه أجرى عليها سنة كونية أخرى.

هذه السنة الكونية هي وقوع الفتن بينهم والفرقة والاختلاف والانقسام والتقاتل، يقول -تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾[الأنعام: 65].

وقد جاء تأويل هذه الآية عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم؛ فعن جابر -رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “أعوذ بوجهك.

قال: ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قال: “أعوذ بوجهك”.

﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “هذا أهون” أو “هذا أيسر”([1]).

ولقد سعى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سعيًا حثيثًا لتجنيب هذه الأمة وقوع سنة الاستئصال فيها، أو الافتراق الذي حدث في الأمم السابقة، فأجيب في بعضها ولم يستجب له في الأخرى؛ فعن عامر بن سعد، عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال -صلى الله عليه وسلم: “سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة.

سألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها.

وسألته أن لا يُهلك أمتي بالغرق فأعطانيها.

وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها”([2]).

وهذا لا يعني أن هذه الأمة تعيش كل وقتها في الخلاف والفتنة والتقاتل فيما بينها، ولكنها تعيش فترات مجد واتساع، وفترات انكماش واستضعاف، فلا الأولى تدوم ولا الثانية، فعن ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض.

وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنة بعامة، وأن لا يُسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيحَ بيضتهم.

وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال: من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يُهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا”([3]).

وقد رأى ابن مسعود أن الفرقة والخلاف أسوأ ما ينزل بهذه الأمة؛ فقد كان “يصيح وهو في المجلس -أو على المنبر: ألا أيها الناس، إنه نزل بكم.

إن الله يقول: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾، لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحد.

﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾، لو خسف بكم الأرض أهلككم، لم يبق منكم أحد.

﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾، ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث”([4]).

وكان لابن عباس تأويل لهذه الآية، ورد عنه من وجه صحيح؛ فكان يقول: “﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾، فأما العذاب من فوقكم، فأئمة السوء، وأما العذاب من تحت أرجلكم، فخدم السوء”([5]).

وقد نزلت الفتن بالتدريج في هذه الأمة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “أربع فتن تكون بعدي:

الأولى: تسفك فيها الدماء.

والثانية: يستحل فيها الدماء والأموال.

والثالثة: يستحل فيها الدماء والأموال والفروج.

والرابعة: عمياء صماء تُعرك فيها أمتي عرك الأديم”([6]).

وما ظهرت فتنة الاختلاف إلا وتبعتها فتنة الدماء؛ إذ ظهر التمرد على أمير المؤمنين عثمان فكان قتله بعد ذلك، ثم كانت المقتلة العظيمة بين المسلمين بتقاتل جيشي الإمام علي وسيدنا معاوية.

ولا زالت الأمة لا تستطيع أن تدير خلافاتها، بل يحدث الصدام والتقاتل والتعذيب، وتذهب الأموال وتزهق الأنفس والأرواح.

وقد يفعل المسلمون في بعضهم ما لا يفعل بهم أعداؤهم.


([1]) أخرجه البخاري في “التفسير”، باب: “قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ الآيَةَ. ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾ يَخْلِطَكُمْ مِنَ الاِلْتِبَاسِ. ﴿يَلْبِسُوا﴾ يَخْلِطُوا. ﴿شِيَعًا﴾ فِرَقًا”، ح(4628).
([2]) أخرجه مسلم في “الفتن وأشراط الساعة”، باب: “هَلاَك هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ”، ح(2890).
([3]) أخرجه مسلم في “الفتن وأشراط الساعة”، باب: “هَلاَك هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ”، ح(2889).
([4]) تفسير الطبري، (11/417).
([5]) السابق، (11/418).
([6]) كتاب الفتن لنعيم بن حماد، (1/55).