اتباعا للحديث عن شمولية الشريعة الإسلامية وملاءمتها لكل وقت وحين، واستيعاب قوانينها لماضي الأمة وحاضرها، وإن ما نقلنا في المقال السابق عنشمولية الإسلاممن اتفاق مبرم بين العلماء المنظرين من هذه الأمة على هذه الحقيقة بات أساسا في منهاج التشريع الإسلامي، ومبدأ من مبادئ الإسلام، أثبت ذلك بالنصوص الجزئية والكلية، والضوابط الفقهية والأصولية، لكن قد يرد على هذا الموضوع الشيق سؤال محدودية النص الشرعي في اشتماله على الوقائع الماضية والمستجدة، لا سيما وأن النص الشرعي بلا خلاف توقف تنزيله بانقطاع الوحي، والأحداث حول العالم تتوالى وغير متناهية، بل تختلف هذه الأحداث نوعيا من بيئة إلى أخرى لاختلاف معطيات كل بلدة من الأخرى، فكان لا بد من النظر في حدود تغطية النص الشرعي لهذه الأحداث.

ولو استعرضنا مواقف الأصوليين عن نسبة تغطية النصوص الشرعية للوقائع بلفظها ومعناها المباشر وغير المباشر كالمعاني التي ثبتت عن طريق الاجتهاد والمصلحة، فإنه سوف يتبين لنا كذلك اختلاف المواقف في تحديد هذه النسبة:

1- فريق يرى أن النصوص لا تحيط بالحوادث، لأن من شأن النصوص أنها انقطعت بانقطاع الوحي، والأحداث لا تنقطع ولا تتناهى، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، يقول الإمام الجويني في البرهان: “معظم الشريعة يصدر بالاجتهاد، والنصوص تفي بالعشر من معشار الشريعة”.

2- ناقض هذا الفريق ابن حزم ورأى أن من المحال والممتنع وجود نازلة لا حكم لها في النصوص. واعتبر دعوى الاجتهاد فيما لا نص فيه أو جاء فيه نص تشريعا بغير ما أنزل الله[1]. وذلك أن النصوص قد استوعبت كل ما اختلف الناس فيه وكل نازلة تنزل إلى يوم القيامة باسمها.. فصح بالنص أن كل ما لم ينص عليه فهو شيء لم يأذن به الله تعالى[2].

3- وتوسط فريق ثالث، حيث يرون أن النصوص الشرعية محيطة بأفعال المكلفين وبأحكام الحوادث، والقياس الصحيح موافق لدلالة النصوص لا يخالفها، والمجتهد في نفسه يسعى لموافقة النصوص وليس لمخالفتها.

يقول ابن تيمية: الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد. . وقيل: بجميع ذلك؛ وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد وذلك أن الله بعث محمدا بجوامع الكلم فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد.

ويحيل ابن تيمية بمقولته السابقة إلى مبدأين لإثبات شمولية النصوص للحوادث:

المبدأ الأول – عموم النص في الأشخاص والأعيان إلى يوم القيامة، فكل حكم دل عليه النص الشرعي في حق شخص أو أشخاص زمن الرسالة فإنه ينطبق على جميع الناس. يقول الزركشي: كل حكم حكم الله ورسوله به في شخص أو على شخص من عباده أو غيرها فذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص إلا إذا قام دليل التخصيص فيه[3]. واعتبر ابن دقيق ومن بعده الخلاف الذي يذكر في عرض هذا الموضوع حين يقال: هل الخطاب تناول غير المخاطبين باللفظ أو بدليل آخر كإجماع أو قياس..؟ فإنهم يرونه عديم الجدوى، فكأن الأمر متفق عليه بين الأصوليين أن النصوص الشرعية شاملة لجميع الأعيان في كل عصر، ما لم يقم دليل على التخصيص.

يقول الشوكاني: وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج بها المختلفون في هذه المسألة لأنا نقطع بأن الخطاب الشفاهي إنما يتوجه إلى الموجودين “باعتبار اللفظ لا إلى المعدومين، ونقطع بأن غير الموجودين” وإن لم يتناولهم الخطاب، فلهم حكم الموجودين في التكليف بتلك الأحكام، حيث كان الخطاب مطلقا، ولم يرد ما يدل على تخصيصهم بالموجودين[4].

واعتبر الدكتور أيمن صالح هذا المبدأ من أحد المبادئ العامة في التعامل مع النصوص الشرعية، واعترض حيال ذلك على أدعياء الحداثة والعلمانيين الذين يزعمون “بتاريخية النص الديني” وهي ارتهان النص الشرعي وقصر دلالته على أسباب نزوله في الزمان الذي نزل فيه. وناقضت هذه المدرسة مبدأ شمولية التشريع الإسلامي بنصه[5].

المبدأ الثاني: إعمال مقاصد النص، وهو ما يستوحيه النص الشرعي من المعاني والحكم والغايات غير المنصوصة عليها بلفظه أو عبارته، فيتوصل إلى الحكم به عن طريق آليات القياس والتعليل والاستصلاح. فكان التعليل بابا واسعا لاحتواء النصوص للأحداث المستجدة وإيجاد الحلول الممكنة والمناسبة لهذه الأحداث.

ومن هذين المبدأين يتمكن الفقيه الحصيف درك الأحكام في القضايا الجديدة وتنطلق من النصوص الشرعية سواء كان الحكم منصوصا عليه أو اجتهاديا استنبطه الفقيه بجهوده لأنه في جميع حالاته يستنبط من الأصل وهو النص، ويجري النظر فيه، ولا يخالف مقتضاه، لذلك اعتبر القياس المخالف للنص، والمتصادم معه قياسا فاسدا، وكذلك من وضع حكما بأوصاف غير مسترعاة في النص الديني فإنه يعتبر حكما باطلا.


[1]  ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، (6/33)

[2]  المرجع السابق، (8/ 17).

[3]  الجصاص، أحكام القرآن (4/ 355).

[4]  الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول (1/ 322).

[5]  المبادئ العامة للفكر الأصول-فقهي الإسلامي في تعامله مع النص، (28)، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، السنة 20، العدد 77، صيف 1435هـ/ 2014.