(1)

إعادة اكتشاف فعل { اقْرَأْ} وتشغيله في مواجهة التعليم الاستعماري

تعاني الأمة من نوعين من الأمية القاتلة: الأولى: الأمية الأبجدية حيث تشير البيانات الحديثة إلى أن نسبة الأمية في العالم الإسلامي تبلغ حوالي (40%) من تعداد السكان، وهو أمر يدعو إلى استشعار المخاطر المترتبة عليه.

والنوع الثاني هو: أمية الوعي ..وأقصد به غياب فعالية الإدراك عند المسلم للتاريخ والواقع والمستقبل، وهو ما ترتب عليه الحالة العقلية المعاصرة التي نرى عليها المسلم من ضُعف في الإدراك والتحليل والطرح حتى لأبسط القضايا الملحة على واقع حياته.

إن إحصائية بسيطة تشير إلى غياب فعل القراءة حتى لدى [ المتعلمين أنفسهم] فمتوسط قراءة الفرد العربي (6 دقائق سنويًا)..ومتوسط قراءة الفرد الأوروبي (200 ساعة سنويًا)..
ليس عندي أي شك في أن أنظمة التعليم في الدولة التي أنشأها الاستعمار والنظم التابعة لها كان له الدور الأكبر في أولًا: المحافظة على نسبة الأمية الأبجدية، وثانيًا: في تراجع وانحسار الوعي وتبديده وتزييفه بشكل غير مسبوق، وذلك من خلال استغلال مناهج التعليم العام والجامعي حيث باتت هذه المناهج في عالمنا الإسلامي التي ساهمت بشكل – عبر قرن أو يزيد- في تحقيق هذا الانحسار والتبديد والتزييف.

إن إعادة اكتشاف فعل {اقْرَأْ} وتشغيله في واقع الأمة يتطلب بشكل جذري: تأسيس نظام تعليم موازٍ يبدأ من الأسرة والرفاق إلى أنظمة تعليمية يقوم على تمويلها المجتمع في المراكز والجمعيات والمؤسسات المستقلة عن إدارة الدولة الاستعمارية، يكون هدفه الأساس تشغيل فعل القراءة المنظمة والمخططة من أجل استعادة مسار الوعي لهذه الأمة، الوعي بذاتها تاريخًا وحاضرا ومستقبلًا، الوعي بمناهج التفكير، وتطورات العلوم والمعارف وموقف المسلم المعاصر منها، وتحقيق مناخ العلم والتعلم باعتباره شكلا من أشكال التبتل والعرفان، وغير ذلك مما يشير إليه تاريخ فعل {اقْرَأْ} الذي غير حياة البشرية منذ نزوله وتفعيله مما يقرب من 15 قرنًا.

(2)

الحماية الوجودية…التربية القرآنية للطفل ( إنسان المستقبل)

الإيمان بالغيب يدفعنا دائمًا إلى التفكير في المستقبل، ولا مستقبل بلا إنسان، الذي هو موضوع القرآن ومستهدف الخلق والخليقة ..وإنسان المستقبل هو ذلك الطفل الذي بين أيدينا تتجسد فيه كل معاني

1 – صفاء الفطرة.

2 – ملكات الخير.

3 – قابليات التعلم.

ولا يختلف أحد أن الأمة تتعرض إلى مخاطر من النوع الوجودي فهي ليست مخاطر اجتماعية وفقط، أو اقتصادية وفقط، أو سياسية وفقط ..ولكنها في كنهها مخاطر تهدد وجود الأمة التاريخي والحضاري.

ومن ثم يصبح البحث عن سبل للحماية الوجودية لهذه الأمة أمر من الضرورة بمكان..والسبيل الأنجع في هذا الطريق موضوعه (الطفل المسلم – إنسان المستقبل)..أما حصن الحماية أو (الركن الشديد) فهو القرآن والتربية القرآنية..فبعد أن تأسست كليات رياض الأطفال في الأمة على غير هذا الركن ..وضعف إسهام التعليم القرآني بفعل فاعل أو إهمال من الأمة..واستبدلت دور الحضانات بالكتاتيب أو الحصون القرآنية التعليمية..بالإضافة إلى التحديات الثقافية  التي فرضها علينا مشروع التغريب والعولمة والتحديث المزعوم..كل هذا يجعلنا نلجأ إلى هذا (الركن الشديد) القرآن والتربية القرآن.

إن نظام التعليم الموازي – الذي أشرنا سابقًا- في الأسرة ومراكز الجمعيات المستقلة يُناط به التفكير في تبني الدرس القرآني في بناء القوة الذاتية للأمة..وأن يعكف الباحثون الجادون الغيورون على أمر هذه الأمة في استنباط برامج التنشئة القرآنية بما يلائم ويلبي احتياجات الطفل المتعددة في تكوينه الذاتي من جوانب نفسية وجدانية إلى جوانب اجتماعية وجوانب عقلية، وكل ذلك يصب في روافد تدريبية تزكوية ومعرفية وثقافية متكاملة، بحيث نضمن معها حماية وجود هذه الأمة، من ناحية، ومن ناحية أخرى يتيح لنا أيضًا البحث عن فاعليتنا الحضارية على أسس ذلك البناء القرآني.

(3)

تجاوز المذهبية القاتلة

استطاع الاستعمار الغربي والأمريكي مع الدولة الاستعمارية التابعة له في منطقتنا العربية – تحديدا- تأجيج نيران المذهبية بين المسلمين، وكان هذا خط أساس لحركة الاستشراق التي بدأت في العالم الإسلامي منذ النهضة الأوروبية الحديثة..وقد استخدمت المخابرات الغربية والأمريكية بالتعاون مع العملاء في العالم الإسلامي خط النار هذا أي: ( المذهبية) وحولته من مصدر لثراء فكر الأمة وفقهها ومدارسها في النظر إلى الإسلام ..إلى مواقع للقتال والاقتتال أفنت فيه الأمة أكبر قدراتها المالية، فضلًا عن القدرات البشرية والمشكلات الاجتماعية والنفسية التي عانتها الأمة بسبب الاقتتال المذهبي في العصر ..والذي بدأ بالحرب العراقية الإيرانية – بعد أقل من عام من قيام الثورة الإيرانية- ولم ينتهي بما حدث في العراق – واحدة من أكبر القوى في العالم الإسلامي اقتصادا وبشرا وعقلا..وما زالت مواقع الاقتتال والنيران تتجدد كل يوم وكل ساعة..طرفاها هما: الغرب المستكبر والعملاء المحليون، أما ضحاياها فهم المسلمون ووضع أمتنا على خارطة الحضارة..

وكان الصوت إلى لم شمل هذه الأمة – لا على مذهب واحد أو مدرسة واحدة- ولكن على مفهوم أكثر اتساعا هو مفهوم “الأمة”{وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [ الأنبياء :92]..كان صوت ضعيف لم يبلغ بعد للراحلين والمبعدين عن حقيقة الإسلام ..وكان يقابله أصوات الفرقة والتمزق والتقاتل التي وجدت أبواقًا من كل حدب وصوب من الطرفين المتآمرين على الأمة: الغرب المستكبر والعملاء المحليون.

ينبغي أن نكون على يقين بأن هذه ( الأمة) لن تنهض إلا (بالأمة) ولن تنهض (متفرقة) ولا (متباعدة) فضلا على أن تكون (متقاتلة) ..وعلى هذا كان تحذير الوحي وتنبيهه { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[ الأنفال:46].

 

(4)

مركزية التفكير السببي وتجاوز الغيبية السلبية

الأمة في مجموعها لم تفقد إيمانها، ولكنها فقدت فعالية هذا الإيمان، وذلك بتحوله إلى إيمان سلبي، فتحولت الرغبة في تجاوز المشكلات إلى تكثيف للدعاء أو اعتبار القدر كفيل بتجاوز تلك المشكلات، واستكان العقل المسلم والواجدان إلى الركون إلى القدرية والجبرية المهلكة له وللأمة، وتغافل جهلًا، أو عجزًا أو استسهالًا عن البحث والاكتشاف والتشخيص لأسباب مشكلاته، وإتباع السنن والأسباب لتجاوزها على المستوى الفردي والجماعي، والبحث عن بدائل وحلول تناسب ظروفه وإمكاناته.

لقد حل الإيمان السلبي محل الإيمان الفاعل، وحل الدعاء المقعد، عن الدعاء العامل، وارتفعت شعارات بآيات قرآنية تدعو إلى انتظار الفرج المنزل من السماء، وذلك بعد أصاب العقل المسلم الوهن والعجز في التفكير في مشكلاته، وهذا مخالف للسنن، فنصر الله له سنن ومسببات، [سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا] {الفتح:23} ، [إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا] {الكهف:84}، [فَأَتْبَعَ سَبَبًا] {الكهف:85} ، [ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا] {الكهف:89} ، [ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا] {الكهف:92}و  وهذه السنن لا تحابي أحدًا مسلمًا كان أو كافرًا طائعًا أو عاصيًا [كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ  وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ] { الإسراء :20}.

إن الأمة بحاجة شديدة اليوم، والآن لإحياء فريضة التفكير، وفريضة استعمال العقل، وفريضة تعلم مناهج البحث، وطرائق التفكير وحل المشكلات، إن العقل لابد أن يتمركز في قلب إيمان المؤمن المعاصر، ليستطيع تجاوز مشكلاته، ومشكلات أمته وفقًا لمنطق الأسباب ومنطق السنن.