في حجته صلى الله عليه وسلم عام 10 هـ، – دنا  صلى الله عليه وسلم من الصفا فقرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

الوقوف الأول على الصفا

على الصخرة ذاتها، صخرة الصفا، صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاث وعشرين سنة، صعد فجعل ينادي: با بني فهر!. يا بني عدي! لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا!

الوقوف الأخير

النبي صلى الله عليه وسلم الآن في حجة الوداع يقف على صخرة الصفا، وحوله أكثر من مائة ألف من الصحابة، كلهم يرقب حركاته وسكناته وأقواله وأوامره صلى الله عليه وسلم، فإذا لبّى، لبوا، وإذا كبَّر، كبَّروا، وإذا أهل، أهلوا، وإذا أبطأ أبطأوا، وإذا أسرع أسرعوا، الجميع رهن إشارته، بل رهن لحْظه وطرْفه.

بين الوقوفين

ما أعظم البون بين الوقفتين، كلتاهما كانت على صخرة الصفا، لكن ثلاثا وعشرين سنة تغيرت فيها كثير من الأمور، لقد دالت فيها الأيام، ورُفع فيها أقوام، وخُفض فيها آخرون، وساد فيها أقوام، وتذيّل آخرون!

النبي صلى الله عليه وسلم يقف الآن، وفي مخيلته تلك السنون الطوال، بكل ما فيها من آلام وعذابات، ها هي كلها أُبدلت عزة ونصرا وسؤددا.

إن الجهد البشري وحده لا يمكنه أن يصنع هذه التحولات الاجتماعية والسياسية والدينية،  إن أمامه أكثر من مائة ألف يسألهم : أي يوم هذا ؟ فلا يجيبون! أي شهر هذا فلا يجيبون ! أي بلد هذا فلا يجيبون ! ليس جهلا منهم باسم بلدهم ، ولا ذهولا عن يومهم وشهرهم، بل  الجميع أصبح على استعداد أن يُذعنوا  بأي تغيير  يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم، على استعداد أن يغير النبي اسم اليوم، فيسميه بغير ما تعارفوا عليه، وأن يغير النبي اسم الشهر واسم البلد، فليفعل ما يشاء، إنه الاستسلام المطلق لهذا الدين .

فهنا ينسب النبي صلى الله عليه وسلم الفضل لصاحب الفضل :لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إنه الله وحده، ولولاه وحده،  لما جاء هذا اليوم، إنهم كانوا أمام عدوهم، الأقل عددًا ، والأضعف قوة وعدة، والأفقر مالاً، لكن الله بارك جهادهم، ونفخ فيه من روحه، فهو إذن قد أنجز وعده بأنه ناصر نبيه ولو بعد حين، وهزم أعداء الدعوة وحده! نعم، وحده، وإلا فبموازين القوى المادية،  لم يكن لهذه القوة الوليدة الضعيفة أن تهزم هؤلاء الأحزاب.

بين الوقفتين جهاد طويل

لكن هذه الوقفة العزيزة على هذه الصخرة ما كانت لتحصل لولا جهاد طويل مرير طوال ثلاث وعشرين سنة.

نعم، كان جهادا طويلا، وتحملا عظيما على المكاره والمشاق، ففي هذا المكان منذ ثلاث وعشرين سنة، سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضوعوا سلا الجزور على رقبته!

وقريبا من هذا المكان، وتحديدا في الطائف، أتبعه الصبيان والمجانين يقذفونه بالحجارة حتى دميت قدماه، ووقف على مشارف مكة، لا يمكنه دخولها مواطنًا له حقوق المواطنة، حسب بروتوكولات ذلك الزمان، فدخلها في كفالة وجوار رجل من المشركين، فدخلها مكفولا مُجارًا.

إن هذه الكلمات على وجازتها (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) رسالة لأصحاب الهمم الضعيفة، والقلوب القانطة من نجاح التغيير والإصلاح، أن ها هو الله بارك جهود المصلحين، وبوَّر جهود المفسدين، وأزال سلطانهم من أرضه.

وفي أثناء هذه السنين، انتقل كثيرون من جنود الإصلاح إلى الدار الآخرة، لم يروا هذا النصر بأعينهم، فما كان الله ليضيع إيمانهم، إنهم الآن في فرحتهم الغامرة بما استقبلهم الله به من حفاوة وإكرام، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (} [الأعراف: 44]