استطاع العلماء والمفكرون المسلمون عبر التاريخ صياغة رؤية عالمية تستمد جذورها من نصوص الوحي والهدي النبوي، وتشمل رؤية الإسلام لفهم وتحليل كافة الظواهر الكونية الحسية وغير الحسية وتقديمها في إطار نظرة الإسلام لهذه الظواهر، وتتعدى هذه الرؤية نظرة الإسلام للمجتمع والفرد والسياسة والاقتصاد والعلوم التجريبية والأخلاق والعادات والتقاليد، وهكذا يقدم الإسلام هذه الرؤية الشاملة الكاملة لكل ما يتعلق بحياة المسلم والمجتمع وأطلق على هذه الرؤية Islamic World” View .

من هذا المنظور ظلت فكرة أسلمة علم النفس التى نادى بها البروفسير مالك بدري تتوسع و تنتشر بين أهل التخصص والباحثين في هذا المجال وزادت الكتابات والبحوث حول الفكرة وأهميتها، يقول مالك بدري: لقد أبدى العديد من علماء النفس الفرنسيين والألمان استيائهم من سيطرة المدرسة الأمريكية على علم النفس وأصبح هذا التأثير واضحا في سلوك شباب هذه الدول وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا لثقافة هذه الشعوب ، فلماذا لا نستاء نحن العرب والمسلمون من سيطرة الغرب على علم النفس؟ ولماذا لا نقدم رؤية إسلامية لهذا العلم نابعة من موروثنا الحضاري وقيمنا وثقافتنا، رؤية تعتمد على تأصيل محكم من مصادر الوحي والهدي النبوي واجتهاد علمائنا.

علم النفس وتعقيداته

يتساءل البروفسير مالك بدري عن أي جزء من علم النفس يحتاج الأسلمة بشكل سريع، في هذا السياق لا بد من التطرق لمسألة العلوم التجريبية وهل علم النفس يدخل في هذا المضمار أم لا؟ هناك الكثير ممن يرى أن العلوم لا علاقة لها بالدين وأن علم النفس يستخدم المنهج العلمي التجربي لإثبات نظرياته، وهذه نظرية قديمة سئم الغربيون من تكرارها لكن للأسف لا زال بين علماء المسلمين وباحثيهم من يردد هذه المقولة.

يجب أن ننتبه إلى أن ما يعرف بـ(العلوم الدقيقة)  كالفيزياء والكيمياء تطورت بشكل سريع لأنها تستخدم متغيرات يمكن التحكم فيها، فمن الصعب مقارنة تجارب هذه العلوم بتجارب علم النفس التى يجد الكثير من الخبراء فيها صعوبة كبيرة في الاتفاق على المتغيرات المسببة للحالات النفسية كالقلق، الانطواء، الإثارة والحب وغيرها من المتغيرات المتعلقة بالنفسية البشرية، إن متغيرات علم النفس صعبة جدا ومعقدة وتجعلنا نعترف بأن غياب تعريف موحد وأساس صلب لهذه المتغيرات يحول دون وجود نظريات مركزية لهذا العلم.

وقد عبر العالم Thomas Kuhn (1970) عن ذلك بقوله إن العلوم التطبيقية تمتلك نماذج تعتمد عليها بينما علم النفس لا يمتلك مثل هذه النماذج.

هناك جوانب من علم النفس تحتاج إلى الأسلمة بشكل أسرع من غيرها وهناك جوانب تتطلب أن نكيفها مع واقعنا وهو ما يتطلب مجهود مضاعف من أهل التخصص فمثلا نحن لا نحتاج إلى أسلمة مقاييس الذكاء Wechler  وBinet  بل نحتاج إلى تكييفهما وتوحيدهما عن طريق وضع معايير مناسبة لشعوبنا.

بين الأسلمة والتكييف

من النقاط المهمة المتعلقة بالأسلمة والتى تحدث عنها البروفسير مالك بدري الفرق بين الأسلمة (Islamization) والتكييف (Adaptation) ، جميع أشكال الأسلمة هي عبارة عن تكييف يتضمن الجوانب الإيديولوجية المتعلقة ببعض مواد علم النفس الغربي لتكون ملائمة للثقافات الأخرى، نحتاج إلى غربلة بعض هذه العلوم وتنقيتها بما يتلائم مع طبيعة شعوبنا و يتلائم مع موروثنا وطبائعنا، ومن هنا فإن جميع أشكال الأسلمة هي عبارة عن تكييف لهذه المواد العلمية لتتماشى مع رؤية الإسلام لكن ليس كل تكييف هو أسلمة.

ما يجب أن نعرفه في هذا الإطار أننا بحاجة فقط إلى أسلمة جزء علم النفس الذي تأثر بالعلمانية الغربية ونظرة العالم المجردة لهذه المفاهيم التى تم تحريفها عن طبيعة الإنسان التى فطر عليها. وهذا ما نحتاج كمسلمين أن نعرفه، إن الكثير من العلوم في الغرب تم تحريفها بشكل كبير وهو ما يحتاج إلى قدر من الوعي في التعامل معها.

كيف نأسلم علم النفس الغربي؟

لا يمكن لأي مجتمع إنساني حديث أو قديم أن يحقق وجوده دون نظرة عامة موحدة بين كافة مكوناته تجاه مجمل القضايا الفلسفية والدينية التى تتعلق بجوانب حياته، وتكون هذه النظرة أساسا لمعالجة ما يواجهه من مشاكل وتحديات، وهكذا تقدم هذه الرؤية إجابات عن أسئلة تتعلق بوجود الإنسان والغاية من وجوده، وطبيعة الحياة ومآلاتها والكون وكيف يسير، هذه الأسئلة هي التحدي لكل المجتمعات والتى ترسم الإتجاهات الأيديولوجية لها، على علماء النفس المسلمين وغيرهم من رواد هذا المجال أن يعلموا أن علم النفس الحديث وبقية العلوم الاجتماعية هي عبارة عن نتاج  للرؤية العلمانية الحديثة في الغرب وأن يتعاملوا مع هذه العلوم من هذا المنطلق.

علماء النفس الغربيون يعتمدون هذا المنهج ويعملون في إطاره وهم أكثر إيمانا وتمسكا بعلمانيتهم من بعض علماء النفس المسلمين، ورؤيتهم العلمانية مكنتهم من تكييف وتبني ما يصلح لهم من أفكار حتى وإن كانت من ديانات وثقافات يختلفون معها أشد الاختلاف ثم يحولونها إلى نظريات بعد تعديلها وصبغها صبغة علمانية.

وهنا يبرز السؤال الجوهري هل علماء النفس المسلمون قادرون على تحمل عبء أسلمة علم النفس كما يفعل علمانيو الغرب لعلمنة مختلف العلوم؟ المسلمون أولى بتكييف هذه العلوم والمعارف من أجل تطوير مجتمعاتهم، فالحكمة ضالة المؤمن أين وجدها فهو أحق بها.