الأصل في التعبير القرآني تسمية الأشياء بحقائقها، وإطلاق ما يليق بها من الأسماء والألقاب فيطلق على السلوكيات والأخلاقيات الجيدة التعبيرات التي تدل على الصلاح والجودة والحسن، ويطلق على التصرفات والتعاملات السيئة الألفاظ التي تدل على فسادها وقبحها وطابعها الشيطاني، ولكن في الآية التي معنا يبدو أننا نلاحظ عكس ذلك، أو هو ما يتبادر إلى ذهننا منها في الوهلة الأولى، وبيان ذلك كالتالي:

في الآية التي معنا سمى الله عز وجل الظلم الصادر من الظالم بأنه سيئة، وسمى ردة الفعل الصادر من المظلوم بأنه سيئة مع أنه عز وجل يعلن بأن ذلك الفعل الثاني ليس بمعصية وأنه جائز للمظلوم أن ينتقم من الظالم (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) إذا فلماذا سماه بالسيئة مع جوازه وإباحته؟

لقد تأملت في هذه الآية واتهمت في البداية النتيجة التي توصلت إليها، ثم تأملت مثيلاتها فوجدت أن الرب يستخدم نفس الأسلوب في كل منها، فخذ مثلا قوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فسمى الفعل الثاني الصادر من المظلوم بالإعتداء، مع أنه عز وجل يجيزه له ويبيحه، وآية أخرى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) فسمى الرفض والإستنكار والتنديد وصوت الإنزعاج والتمرد الذي يصدر من المظلوم للتعبير عن حريته وكرامته وحقه بأنه (سوء من القول) مع أنه عز وجل يقول بأنه يحب ذلك، لأن قوله عز وجل   (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) يقابله (إن الله يحب الجهر بالسوء من القول من الذي ظلم) إذا فلماذا هذا الأسلوب يكاد يكون مطردا في مثل هذه المواقف؟

يمكننا أن نريح أنفسنا هنا، ونسلك منحى أغلب المفسرين الذين وقفوا عند التحليل البلاغي لهذه الآيات، واكتفوا بالقول بأنها من باب المشاكلة وهي مقابلة اللفظين المتحدين في اللفظ المختلفين في المعنى. إن هذه النتيجة صحيحة ولا غبار عليها، ولكني أرمي من خلال هذه القراءة قراءة أخرى قد نسميها منطقية أو فلسفية إن جاز التعبير.

إن هذا الأسلوب التقابلي التشاكلي الحرفي في هذه الآيات تعبير عن معنى شرعي مقاصدي عميق، وهو أن الله عز وجل يقول لنا بأن هذه الأفعال التي تفعلونها وترتكبونها في حالة اضطراكم إليها  على رغم كونها جائزا لكم في تلك الحالة إلا أن ذلك لا يرفع عنها صفة التقبيح والتحريم الشرعي الأصيل فيها-احتراز من التحسين والتقبيح العقلي الإعتزالي- فهذه الأفعال تبقى قبيحة في عين الشرع من حيث الأصالة حتى لو ارتكبتموها في حالة الجواز الإستثنائي، وحرصا على تأكيد هذا المعنى الفلسفي الشرعي العميق فإن القرآن الكريم التزم هذه الألفاظ في مواضعها حتى لا تغيب هذه المعاني عن الأذهان عندما نتعرض للظلم والإساءة، وهذا يقودنا إلى سؤال آخر ناتج عن السؤال الأول، وهو لماذا لا يريد الله عز وجل أن يغيب هذا المعنى الأصيل لهذه الأفعال عن مخيلة المظلوم؟ الجواب: لا يريد الله –إن شاء الله- أن يغيب هذه الأوصاف عن تلك الأفعال في مخيلة المظلوم لوظيفتين أساسيتين:

الوظيفة الأولى: أن استحضار تلك الأوصاف الأصيلة لتلك الأفعال قد يحمل المظلوم على العفو والصبر والتحمل الذي حثه عليه القرآن في بعض هذه الآيات (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) فأنت حينما تستحضر تلك الأوصاف السيئة لتلك الأفعال فقد تجد في نفسك نفورا وكرها وعدم الإرتياح في ارتكابها، وهذا يحدث كثيرا لأصحاب النفوس العظيمة والأشخاص المحترمة، فهم يعفون عن الظالمين ولا يعاملونهم بالمثل لئلا يدنسوا شرفهم وينزلوا بأنفسهم منزلة الظالم ، وربما عفوا عنه وتصالحوا فيما بعد.

الوظيفة الثانية: أن أقل ما قد يفعله ذلك الإستحضار إذا لم يحمل المظلوم على العفو، فإنه حتما سيحمله على الإنصاف والإعتدال وعدم تجاوز الحد في الإنتقام، لأنه يستحضر في ذهنه أن ما يفعله سيئة وظلم من حيث الأصل وإنما أبيح له فقط في ظرف استثنائي فعليه فلن يعتدي ولن يظلم، ولذلك حرص القرآن على ترسيخ هذا المعنى أيضا بقوله (سيئة مثلها) (فاعتدوا عليه بمثل)

إن هذا هذه الآيات تذكرني بالحديث المختلف في صحته (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) فالطلاق معنى سلبي، وهو غالبا يحتل مكانته بعد فترة حب ووئام وانجسام واحتفالات وولائم بين المتزوجين، فأحب الشارع عن يعبر عن حالة انقطاع هذه العلاقة الإجتماعية البالغة الأهمية بأنه (أبغض الحلال) إليه.

وقد استغرب بعض الناس مثل هذه التعبيرات وحكموا على الحديث بنكارة المتن من أجل هذا الأسلوب، والحقيقة أن هذا الإستغراب نتيجة وجود فجوة بين مراعاة المعاني السيكلوجية المقاصدية والرحمة الربانية المراعاة في تشريعاته التكليفية للمكلفين وبين النظرة الإنعزالية الظاهرية المجردة للألفاظ بعيدا عن مقاصدها ومراميها، فالشريعة لم تأت إلا رحمة للعالمين، وهي قننت من قبل الله لتعزيز أواصر الرحمة والأخوة والتعايش والحياة الكريمة في الدارين لأتباعها المؤمنين، فكل ما يؤثر على حياة هؤلاء الأتباع سلبا فإن الشارع لا يحبه من حيث الأصالة وإن أباحه في حالة الضرورة والحاجة أو المصالحة عليه بين الزوجين، ومن هنا جاء التعبير الحديثي عن هذا المعنى ليظل هذا الوصف حاضرا في ذهن الرجل الطالق، ويتذكر أن ما يقدم عليه ليس من الأمور المحمودة لدى الشرع من حيث الأصل. وسأتعرض لتفاصيل أكثر لهذا التعبير وبعض المعاني الدقيقة فيه إن شاء الله في المستقبل.

وعودة إلى الآيات السابقة، فقد يشكل بعض الناس النتيجة التي توصلت إليها مع بعض الآيات الواردة في حق الله عز وجل. مثل قوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله) (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا) (الله يستهزئ بهم…) فيثور سؤال: هل الله في هذه الآيات يريد أن يذكّر نفسه بأن هذه الأفعال التي يقوم بها ليست جيدة من حيث الأصالة؟

الجواب أن نقول: بأن هذه الأوصاف التي جاءت المشاكلة بها في هذه الآيات المتعلقة بالله عز وجل تحدثت عن أوصاف محددة مفصّلة تختلف عن الأوصاف التي جاءت في الآيات الأولى المذكورة أعلاه. فوصف (المكر، الكيد، والإستهزاء) هي تعبيرات جزئية نوعية قد تندرج تحت مفاهيم كلية- طبعا هذه الأشياء قد تعتبر كلية نسبية حسب جزئياتها أيضا- وبتعبير فلسفي أو منطقي فإن الألفاظ الواردة في الآيات الأولى التي تحدثت عنها هي مفاهيم كلية (السيئة، السوء، الإعتداء) بينما الأوصاف الواردة في حق الله عز وجل هي تعبير عن مصاديق هذه المفاهيم، ومعروف أن المفاهيم أكثر شمولية وإطلاقية وعمومية من المصاديق، فبينما لا يختلف كثيرا في وجود المفاهيم الكلية إلا عند الفلاسفة التجريبيين الذين ينكرون وجود المفاهيم الكلية، فإن تصديق هذه المفاهيم على (الماصدق)  من المصاديق قد يكون متنازع فيه وربما محتملة.

وهنا لما كانت هذه الجزئيات النوعية (المكر، الكيد، الإستهزاء) متأرجحة بين أن يكون أحيانا للخير وأحيانا للشر، لم يكن هناك غضاضة أن يصف الله به بعض أفعاله في حالات معينة، أما المفاهيم الكلية المتضمنة للمصاديق السلبية السيئة فلا يصف الله بها نفسه كما فعل في الآيات المتعلقة بالإنسان، فلم يقل الله أبدا في القرآن (يعتدون ويعتدى الله عليهم) أو (يظلمون ويظلمهم الله) أو (يسيئون ويسيئ الله إليهم) بل إن الله نفى الظلم المقابل فقال (وماظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (وما ظلمناهم ولكن أنفسهم يظلمون) فمن هنا نفرق بين المصاديق المحتملة في اندراجها تحت الكليات، وبين المفاهيم الكلية التي لا يشك أنها تتضمن جزئيات تصدق عليها تلك المفاهيم الكلية، وكذلك نفرق بين المصاديق القطعية التي تندرج تحت المفاهيم الكلية كالخيانة في اندراجها تحت الظلم، وبين المصاديق الجزئية الظنية التي تندرج تحت المفاهيم الكلية كالمكر في احتمال اندراجها تحت الظلم، ولذلك وصف الله نفسه أنه يمكر بالكافرين ولم يقل بأنه يخونهم، فقد جاء في القرآن (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ولم يقل فخانهم، لأنه من المصاديق القطعية للظلم.