يحلل مصطفى السباعي في دراسته المهمة الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم) و( السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) أهم الأهداف الفكرية والثقافية حول مقاصد المستشرقين وأهمها:

1 –التشكيك بصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومصدرها الإلهي، فجمهورهم ينكر أن يكون الرسول نبيًا موحي إليه من عند الله – جل شأنه – ويتخبطون في تفسير مظاهر الوحي التي كان يراها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وبخاصة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فمن المستشرقين من يرجع ذلك إلى “صرع” كان ينتاب النبي صلى الله عليه وسلم حينًا بعد حين، ومنهم من يرجعه إلى تخيلات كانت تملأ ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يفسرها بمر نفسي، وهكذا، كأن الله لم يرسل نبيا قبله حتى يصعب عليهم تفسير ظاهرة الوحي، ولما كانوا كلهم ما بين يهود ومسيحيين يعترفون بأنبياء التوراة، وهم كانوا أقل شأنًا من محمد صلى الله عليه وسلم في التاريخ والتأثير والمبادئ التي نادى بها، كان إنكارهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم تعنتا مبعثه التعصب الديني الذي يملأ نفوس أكثرهم كرهبان وقسس ومبشرين.

2 – ويتبع ذلك إنكارهم أن يكون القرآن كتابًا منزلًا عليه من عند الله عز وجل، وحين يفحمهم ما ورد فيه من حقائق تاريخية عن الأمم الماضية مما يستحيل صدوره عن أمي مثل محمد صلى الله عليه سلم، يزعمون ما زعمه المشركون الجاهليون في عهد الرسول من أنه استمد هذه المعلومات من أناس كانوا يخبرونه بها، ويتخبطون في ذلك تخبطًا عجيبًا، وحين يفحمهم ما جاء في القرآن من حقائق علمية لم تعرف وتكتشف إلا في هذا العصر، يرجعون ذلك إلى ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم، فيقعون في تخبط أشد غرابة من سابقه.

3 –ويتبع إنكارهم لنبوة الرسول وسماوية القرآن، إنكارهم أن يكون الإسلام دينًا من عند الله وإنما هو ملفق – عندهم  – من الديانتين اليهودية والمسيحية، وليس لهم في ذلك مستند يؤيده البحث العلمي، وإنما هي ادعاءات تستند على بعض نقاط الالتقاء بين الإسلام والدينين السابقين. ويلاحظ أن المستشرقين اليهود – أمثال جولد تسيهر وشاخت – هم أشد حرصًا على ادعاء استمداد الإسلام من اليهودية وتأثيرها فيه، أما المستشرقون المسيحيون فيجرون وراءهم في هذه الدعوى؛ إذ ليس في المسيحية تشريع يستطيعون أن يزعموا تأثر الإسلام به وأخذه منه، وإنما فيه مبادئ أخلاقية زعموا أنها أثرت في الإسلام، ودخلت عليه منها، كأن المفروض في الديانات الإلهية أن تتعارض مبادؤها الأخلاقية، وكأن الذي أوحي بدين هو غير الذي أوحي بدين آخر، فتعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

4 – التشكيك في صحة الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا المحققون،  ويتذرع هؤلاء المستشرقون بما دخل على الحديث النبوي من وضع ودس، متجاهلين تلك الجهود التي بذلها علماؤنا لتنقية الحديث الصحيح من غيره، مستندين إلى قواعد بالغة الدقة في التثبت والتحري، مما لم يعهد عندهم في ديانتهم عشر معشاره في التأكد من صحة الكتب المقدسة عندهم.

ويعلل السباعي حملة الاستشراق على السنة النبوية بما تحتويه على ثروة فكرية وتشريعية قادرة لى بعث الأمة من جديد وهو ما يناقض مطامع الغرب ومطامحه “…والذي حملهم على ركوب متن الشطط في دعواهم هذه، ما رأوه في الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا من ثروة فكرية وتشريعية مدهشة، وهم لا يعتقدون بنبوة الرسول، فادعوا أن هذا لا يعقل أن يصدر كله عن محمد الأمي بل هو عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى، فالعقدة النفسية عندهم هي عدم تصديقهم بنبوة الرسول، ومنها ينبعث كل تخبطاتهم وأوهامهم”.

5 – التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي الذاتية، ذلك التشريع الهائل الذي لم يجتمع مثله لجميع الأمم في جميع العصور، لقد سقط في أيديهم حين اطلاعهم على عظمته وهم لا يؤمنون بنبوة الرسول، فلم يجدوا بدًا من الزعم بأن هذا الفقه العظيم مستمد من الفقه الروماني، أي أنه مستمد منهم – الغربيين – وقد بين علماؤنا الباحثون تهافت هذه الدعوى، وفيما قرره مؤتمر القانون المقارن المنعقد بلاهاي من أن الفقه الإسلامي فقه مستقل بذاته وليس مستمدًا من أي فقه آخر، ما يفحم المتعنتين منهم ويقنع المنصفين الذين لا يبغون غير الحق سبيلًا.

6 – التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي؛ لنظل عالة على مصطلحاتهم التي تشعرنا بفضلهم وسلطانهم الأدبي علينا، وتشكيكهم في غني الأدب العربي، وإظهاره مجديًا فقيرًا لنتجه إلى آدابهم، وذلك هو الاستعمار الأدبي الذي يبغونه مع الاستعمار العسكري الذي يرتكبونه.

الاستشراق الصهيوني – اليهودي

نوع آخر من الاستشراق هو الاستشراق اليهودي الصهيوني وهذا الاتجاه كان يهدف إلى التمهيد لمطامع الصهيونية العالمية، والتي أهمها عندهم إقامة الحكومة الكونية أو مملكة الكون التي يكون اليهود فيها هم السادة، وغيرهم العبيد.([1])

وقد عمد هذا الاتجاه إلى وضع مخطط علمي وثقافي وإعلامي من أجل إكساب “الصهيونية” وجودًا شرعيًا في فلسطين وحقًا تاريخيًا وذلك من خلال التزوير في كتابات التاريخ ووضع الموسوعات والكتب باللغات المختلفة، وكذلك القصص المسرحية والسينمائية التي تحاول فرض نظريات جديدة قوامها القول بأن إسرائيل هو الشعب المختار الذي واجه الاضطهاد على مدى التاريخ وأن عظماء الفكر في العالم وكبار المكتشفين والباحثين في مختلف العلوم كانوا من اليهود، وإعلاء شأن الجنس اليهودي والدعوة إلى السامية واعتبار كل من يقف في وجه حركتهم هو من أعداء السامية، وقد استطاعت الصهيونية بوسائلها المختلفة وأساليبها الممتدة وسيطرتها على الأسواق المالية والتجارية أنحاء العالم من ترديد هذه الدعاوى وفرضها على الفكر العربي.([2])

ويوضح إبراهيم عبد الكريم في دراسته “الاستشراق والمشروع الصهيوني”([3]) أن الفائدة التي قدمها الاستشراق ضمن النطاق الاستعماري الغربي المباشر، إنما شملت هذه الفائدة نطاقًا فرعيًا يخص التوجهات اليهودية الصهيونية…فكانت المشاريع المتعلقة بالبحث عن وطن لليهود، ومنها ما قدمه “ديبرون” في بداية القرن التاسع عشر، إذ جهد لتثبيت فكرة “وجود شعب الله المختار” في فلسطين. وتتابعت الدراسات والأبحاث الاستشراقية لتصب في هذا الاتجاه. وتشكلت الجمعيات ومنها: “جمعية فلسطين” 1801، ثم “الجمعية الجغرافية الملكية” 1830، و”صندوق اكتشاف فلسطين” الذي لعب دورًا بارزًا في توجيه السياسات الاستعمارية البريطانية إلى العمل على البدء بتحويل المشروع الصهيوني إلى واقع متحقق.([4])

انطلق عمل المستشرقون اليهود من وعيهم بضرورة الكشف عن علاقة لليهود بفلسطين وإثبات جذور تاريخية وحضارية لهم في المنطقة تجد في التوراة مستندًا لها وأساسًا في التواجد في القدس قبل الحضارة العربية الإسلامية. ومن هنا كان لابد من العمل من أجل توكيد هذه المزاعم بما يدعمها فكان اهتمامهم يتركز على ما “يخص دينهم من تاريخ المنطقة العربية وحضارتها. مما يعني أن انتماء المستشرقين اليهود إلى اليهودية يجد تعبيراته الثقافية عندهم في هيئة اهتمام زائد بالورقة اليهودية في الشجرة العربية الإسلامية ومن أشهر المستشرقين اليهود في القرن التاسع عشر والعشرين الذين كرسوا حياتهم في خدمة المشروع الصهيوني: هم سولمون مونك (فرنسي)، أرمنيوس فامبري (هنغاري)، أجنتس جولدتسهير (مجري)، ريتشارد جوتهيل (إنجليزي)، جوزيف هوروفيتس ودافيدبانت (ألمانيان). ([5])

 


([1]) محمد عبد العظيم المطعني: أوروبا في مواجهة الإسلام، مرجع سابق، ص113.

([2]) أنور الجندي: عالم الإسلام المعاصر، مج3، القاهرة، دار الأنصار، ص318.

([3]) إبراهيم عبد الكريم: الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل، عمان، دار الخليل للنشر 1993.

([4]) كمال البكاري (مراجعة): الاستشراق والمشروع الصهيوني، مجلة الاجتهاد، العدد 50-51، مرجع سابق، ص356.

([5])كمال البكاري (مراجعة): الاستشراق والمشروع الصهيوني, مرجع سابق، ص365.