في هذا الجزء الثاني من حوار المفكر اللبناني “محمود حيدر” مع إسلام أون لاين يتحدث عن السياقات الغربية لنشأة مفهوم “ما بعد العلمانية“، وأن السمة الأساسية لهذا المفهوم هي التعددية الثقافية التي تتيح المجال أمام تعايش مختلف الأديان والتقاليد والأفكار الفلسفية في مرحلة زمنية واحدة.

وتناول “حيدر”  نظرية الخروج من الدينللمفكر الفرنسي “مارسيل غوشيه” والتي ترى أنه يمكن اعتبار الدين بنية فوقية في المجتمعات، مع وجود بنى تحتية تعمل في غيابه على نحو تام، وهي نظرية أيدها بعض القساوسة، وربما رأى فيها هؤلاء مخرجا للصراع بين الدين والعلمانية في الغرب.

وتحدث-أيضا- عن الاستغراب السلبي الذي أنتجته دهشة العربي والمسلم بالمنجز الحضاري الغربي ثم جاءت الترجمة لتوسعه، وجاءت الهيمنة الاستعمارية لترسخه، وهو أنتج هشاشة في التساؤلات العربية والإسلامية للعلمانية والحداثة الغربية، وأنتج تبعية للمنظمة الغربية تستعيد أسئلة الغرب أجوبته.

هدنة الدين والعلمانية

ـ يجري الحديث عن نظرية ما بعد العلمانية كأطروحة مستحدثة يجري نقاشها هذه الأيام بين النخب الفكرية في الغرب. ماذا عن هذه الأطروحة، وفي أي سياق نشأت؟

حيدر: ما بعد العلمانية، تجربة مستجدة في التفكير الغربي بشقيه العلماني واللاهوتي. تجربةٌ تتغيَّا وضع حدّ للاحتراب المديد بين خطّين متعاكسين: إما الإيمان المطلق بقوانين اللاّهوت وسلطاته المعرفية، وإما الإيمان بمطلق العقل المحض، وما يقرره من أحكام لادينية لفهم العالم. في هذه الآونة يجري الحديث في منتديات التفكير في أوروبا عن أن العلمانية وصلت إلى نهايتها وأن مرحلة ما بعد العلمانية قد بدأت. وأن تأثير الدين بات يلعب دوراً أكبر في حياة الناس كما أنه عاد إلى صلب المجتمع الحديث.

أعتقد أن مثل هذا الحديث، وعلى هذا المستوى من الجدَّة يشكل انعطافاً مهماً في المقاربات النقدية الجارية الآن، على الرغم من أنها مقاربات لا تزال تقتصر على أصوات محدودة في البيئتين الأكاديمية والفلسفية. أما ما يتصل بطبيعة الأطروحة ومقاصدها فإن ما بعد العلمنة هي مقترح يقدم أساساً مفهوم على فكرة مركزية مفادها أن العلمانية قد تكون وصلت إلى نهايتها، وكما يبين الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس فإن مصطلح “المجتمع ما بعد العلماني” “لا يشير فقط إلى حقيقة أن الدين يستمر في توكيد وجوده في بيئات تزداد في علمانيتها، بل أيضاً، أن المجتمع الغربي في الوقت الحاضر لا يزال يضم نِسَباً وازنة من المجموعات الدينية”.

ـ في أي سياق يجري طرح هذه الفكرةـ.. وهل ثمة استجابة لها من جانب النخب الأوروبية؟

ـ حيدر: طبيعة الاستجابة لأي فكرة غير مألوفة تظل في البداية ضعيفة من جانب الجمهور. بل حتى من قبل النخبة الحاكمة التي لا يروق لها أي فكرة تثير التوتر في منظومتها. وهنا يتساوى العقل الغربي مع العقل الشرقي في رفض الجديد. الشيء الأساسي في فكرة “المجتمع ما بعد العلماني” هو المجهود المبذول للتضييق على هذه الظاهرة في الغرب. واللافت أن الكثير من الدارسين يلاحظون أن هذه الظاهرة قد تصبح حقيقية في البلاد الإسلامية بما أنها في أساسها حوار بين الدين والدولة، مع أن مؤيدي هذه الأطروحة يقولون:أن “المشروع «ما بعد العلماني لا ينطبق إلا على بعض المجتمعات الأوروبية الثرية، أو على بلاد مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا حيث استمر اختفاء الروابط الدينية بين الناس بشكل دراماتيكي خاصة في فترة ما بعد الحرب،” كذلك يمكن تطبيق هذا المصطلح على الولايات المتحدة التي تظل بالنسبة إليه “رأس حربة الحداثة“.  وبحسب ما يقول هابرماس فإن ما بعد العلماني يشير إلى تغيير في الوعي يرجع إلى ثلاث ظواهر:

الأول: إدراك أن النزاع الديني له أثر على الصراعات الدولية.

الثانية: الاعتقاد بأن المؤسسات الدينية تلعب بشكل متزايد دور “كيانات تفسيرية” في الساحة العامة للمجتمعات العلمانية.

الثالثة: واقع هجرة “العمال الزوار” واللاجئين خاصة أولئك القادمين من بلاد لها خلفيات ثقافية ودينية تقليدية.

ولذلك فهابرماس كمنظر لـ “ما بعد العلمانية” يدعم النظرة التي تزعم أن الدول الإسلامية وحتى الدول الأوروبية الشرقية لا يمكن أن تشهد فترة ما بعد علمانية، وعلى هذا الأساس راح يستثني الدول الإسلامية من ملاحظاته نظراً لطبيعة الإسلام كدين، كما يقول، حيث لا يتيح المجال للتحول السهل إلى الدولة العلمانية رغم تزايد أصوات المثقفين الليبراليين الذين يدعون إلى تجديد الشريعة بحيث يسهل الفصل بين الدين والدولة. بالإضافة إلى ذلك فهو يستثني الدول الأوروبية الشرقية من ملاحظاته ويرى أنه في المجتمع ما بعد العلماني لا بد من وجود بعض الشروط مثل دعوة المجتمعات الدينية إلى المشاركة في العملية الديمقراطية على أساس أن على هذه المجتمعات أن تحترم القيم الديمقراطية، وأن تعي حقيقة أنها تعيش في مجتمع عام تعددي.

المسلمون وأزمة العلمانية

– لكن هل سيكون لهذا الطرح حظ النجاح بقطع النظر عما ذهب إليه هابرماس في استثناء المجتمعات الإسلامية منه وحصره بالمجتمعين الأوروبي والأميركي؟

 – حيدر: يجب أن نعلم أولاً أن السمة الأساسية للعصر “ما بعد العلماني”  حسب نظرة هابرماس هو التعددية الثقافية التي تتيح المجال أمام تعايش مختلف الأديان والتقاليد والأفكار الفلسفية في مرحلة زمنية واحدة، وفي أغلب الأحيان هذه الفترة الزمنية تكون في إطار مجتمع غربي. يذكر عالم الإجتماع الإيطالي ومحلل فكر هابرماس “ماسيمو روزاتي” أن “مجتمعاً حقيقيّاً ما بعد علماني هو مجتمع متعدد الأديان حيث توضع التقاليد الأصيلة في البلاد مع المجتمعات الدينية المهاجرة إليها. بكلمات أخرى فإن التعددية الدينية جزء من الظروف الاجتماعية للمجتمع ما بعد العلماني”.

في الواقع يحاول هابرماس أن يفتح حواراً بين الدين والعلمانية محاولاً حل النزاع بين التعددية الراديكالية والعلمانية الراديكالية مقترحاً إقامة حوار يتعلق بإدماج الأقليات الأجنبية في المجتمع المدني، وتشجيع أعضاء المجتمع على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية”.

لا ريب بأن ما يطرح في أوروبا والغرب عموماً حول “رجوع الديني”، هو عنوان إشكالي سيكون له آثاره البيِّنة على المفاهيم والأفكار والقيم التي تجتاح المجتمعات الغربية اليوم. من بين تلك الآثار ما ينبري إلى تداوله جمعٌ من فلاسفة ومفكري الغرب سعياً للعثور على منظور معرفي يُنهي الاختصام المديد بين الدين والعلمنة. والذي تسالَمَ عليه الجمعُ في ما عرف بنظرية “ما بعد العلمانية”، هو أحد أكثر النوافذ المقترحة حساسية في هذا الاتجاه.

وما يعزز آمال القائلين بهذه النظرية أن أوروبا الغنية بالميراثين العلماني والديني قادرة على إبداع صيغة تناظر تجمع الميراثين معاً بعد فِرقة طال أمدها. ربما هذا هو السبب الذي لأجله ذهب بعض منظِّري “ما بعد العلمانية” ـ ومنهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ـ إلى وجوب تخصيص إطار مرجعي يحضن أهل الديانات وأتباع العلمنة سواء بسواء بغية العيش المتناغم في أوروبا تعددية.

شغف التساؤل حول صيرورة الاحتدام الديني العلماني ومآلاته، لم يتوقف عند هذا المفرق.. كان ثمة منحى آخر تترجمه المحاورات الهادئة بين اللاَّهوت والفلسفة. واللقاء المثير الذي جمع في بداية العام 2004 البابا بينيدكتوس السادس عشر إلى الفيلسوف هابرماس، شكَّل في العمق أحد أبرز منعطفات التحاور الخلاّق بين الإيمان الديني والعلمنة في أوروبا. ومع أن اللقاء لم يسفر يومئذٍ عما يمكن اعتباره ميثاقاً أوليّاً للمصالحة بين التفكير اللاهوتي والتفكير العلماني، إلا أنه أطلق جدلاً قد لا ينتهي إلى مستقر في الأمد المنظور.

ـ ما الذي جرى في هذا اللقاء بين هاتين الشخصيتين اللتين قدّمتا أفكاراً تجديدية كل من موقعه؟

– حيدر: يمكنني القول على نحو مجمل أن اللقاء الفريد بين الرجلين، ظَهَّرَ المسلَّمات التي ينبغي الأخذ بها لتحصين كرامة الإنسان في زمن بلغت فيه اختبارات الحداثة حدَّ التهافت. وجد هابرماس في العقل العملي لـ”الفكر العلماني” نافذة نجاة للخروج من مأزق الحداثة.. بينما وجده البابا بنيديكتوس في الإنسان كمخلوق إلهي يمكنه إبداع الرؤى باتجاه الخير العام. يومها اعترف هابرماس باستعداد الفلسفة التعلُّم من الدين. كان لسان حاله يقول: ما دام العقل لم يستطع القضاء على الوحي في فضاء علماني، فليهتم الفيلسوف بالإيمان عوض الاستمرار في الحرب معه. ثم أصرَّ على ضرورة أن توليَ الدولة المشرِّعة للقوانين كل الثقافات والتمثُّلات الدينية عنايتها، وأن تعترفَ لها بفضاء خاص في إطار ما سماه بالوعي “ما بعد العلمانيّ” للمجتمع. أما إجمالي ما ذهب إليه البابا فهو دعوته إلى تحصين الحضارة الغربية المعاصرة عبر خمس ركائز: التعاون بين العقل والإيمان، مواجهة التحديات الجديدة التي تواجه الإنسان، فكرة الحق الطبيعي كحق عقلي، التعدد الثقافي كفضاء لارتباط العقل والإيمان، العقل والإيمان مدعوان لتنظيف وإشفاء بعضهما البعض…

– هل هذا يعني أن ما بعد العلمانية هي صيغة توسُّط بين نقيضين تاريخيين؟

حيدر: لو كان لنا من عبرةٍ تُستخلَصُ مما دار بين اللاَّهوتي والفيلسوف، لقلنا إن ما حصل هو أشبه بإجراء ينبئ عن انصرام تاريخ غربي كامل من الجدل المزمن  حول “بِدعة” الاختصام بين الوحي والعقل. لكن ماذا لو افترضت معك أن تكون صيغة ما بعد العلمانية هي منطقة التوسط الفضلى بين نقيضين لدودين أنتجا على مدى ثلاثة قرون متعاقبة توترات وحروباً وسجالات فكرية لم تنته تداعياتها الى يومنا هذا.

أستطيع القول أن فكرة ما بعد العلمانية هي الصيغة الحضارية الأكثر تناسباً لتحقيق الوئام المفقود بين البيئات الدينية والبيئات العلمانية. أعتقد أن القضية هنا ليست متعلقة بالرغبة في ايجاد طريق يخرج التفكير الإنساني من لعبة الثنائيات الضدية: الدين أو العلمنة الله والعالم. القضية هنا هي حاصل تطور منطقي في حركة التاريخ وحضور الفكر الإنساني في هذه الحركة فعلى سبيل المثال: إن الحداثة الفائضة التي نعيش تدفقاتها اليوم مثلما ولدت من فضاء المراجعات التي عصفت بالحداثة الأولى وما بعدها، كذلك  وُلدت “ما بعد العلمانية” كمجاوزة لما اقترفته العلمنة من معايب ظهرت قرائِنُها صورة إثر صورةٍ وحدثاً إثر حدث.  لذا لم تتحول “مابعد العلمانية” إلى مقالة سارية في الزمن إلا بعدما أُشْبِعَت العلمنةُ جدلًا واختبارًا، حتى أوشكت أن تُهجر أو تُرمى في النسيان. والعلمانية شأن نظائرها الأخرى [كالأيديولوجيا والديمقراطية والحداثة والرأسمالية الليبرالية وسواها..] راحت تحفر السبيل إلى المابعد قصد التجدد والديمومة. وما كان ليتسنى لها هذا لولا أن كفّت عن الاستمرار في أداء وظائفها الكبرى. لكنّ القول بوصول العلمانية إلى خاتمتها، لا يعني في واقع الحال الحكم بموتها. فالختم هنا يدل على نهاية جيل تاريخي أدت العلمنة في خلاله مجمل إجراءاتها، وصار عليها أن تتهيَّأ لتغيير مهمتها بما يناسب الزمن الذي حلّت فيه.

الخروج من الدين

ـ استكمالاً لمضمون السؤال السابق هناك أطروحة قدمها في تسعينيات القرن العشرين الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه تحت عنوان: “دين الخروج من الدين”. ما الذي يقصده منها، والى أي مدى تقترب هذه الأطروحة من الجدل المتفاعل في أوروبا حول فكرة ما بعد العلمانية.

ـ حيدر: أميل إلى التأكيد بأن ليس ثمة علاقة مباشرة بين ما يطرحه غوشيه حول “دين الخروج من الدين” وما يقدمه كل من هابرماس وتشارل تايلور بصدد “ما بعد العلمانية”. لكنني أجد رابطاً داخلياً يجمع بين الأطروحتين. ذلك بأن كلا منهما تندرجان في سياق الاشتغال على حل مشكلة التناظر السلبي بين الدين والعلمنة، والسعي إلى حل المعضلة التي عادت إلى الاحتدام في عصر الحداثة الفائضة. لنعد الى الشطر الأول من السؤال:

ان نظرية “الخروج من الدين” (Sortir de la religion) كما يريدها غوشيه لا تعني التخلي عن المعتقد الديني وإنما الخروج من عالم  يكون الدين فيه بحد ذاته منظِّماً بنيوياً للعالم، ويوجه الشكل السياسي للمجتمعات ويعين بنيها الاقتصادية. إن المجتمعات الخارجة من الدين هي بالتحديد المجتمعات التي يمكن فيها اعتبار العامل الديني بنية فوقية بالمقارنة مع بنية تحتية تعمل في غيابه على نحو تام.

إن الخروج من الدين يعني في المحصلة، الانتقال إلى عالم يستمر وجود الأديان فيه، ولكن ضمن شكل سياسي وتنظيم جماعي لم تعد تعني بتحديدهما. والخروج من الدين لا يناهض الدين من حيث الجوهر، وإنما يعادي المطامع الدنيوية للكنائس وليس الدين على الإطلاق. إنه، بكل بساطة، يطلب من المؤمنين أن يحتفظوا بإيمانهم الشخصي بالخلاص للعالم الآخر، وأن يدخلوا اللعبة المشتركة للاستقلالية عن الدين في هذا العالم المعاصر.

ـ هل توضح لنا السياق الفكري الذي حمل الفيلسوف الفرنسي على صياغة هذه النظرية المثيرة للجدل، وكيف تعاملت معها في الدوائر اللاهوتية في أوروبا؟

حيدر: لم يتوقف مارسيل غوشيه عن البحث والتحليل منذ دخوله  عالم الفكر. وهو منذ بداياته الأولى ظل ينتظر لحظة ما للخروج من “المياه الراكدة” للفكر الفرنسي.. لقد التقط فرصته المنتظرة، بانطلاق حركة الشبيبة عام 1968 ودخل من خلالها عالم الفكر الناقد الذي تمثل آنذاك بـ “المدرسة البنيوية”، وهذه المدرسة كما هو معلوم سيطرت على مفاصل واتجاهات التأثير لدى الانتلجانسيا الفرنسية من خلال عدد من كبار المفكرين أمثال جان بول سارتر، جاك لاكان، ميشيل فوكو… ولكن بعد زوال “حركة التمرد”، وتداعي آمال التغيير، وتفرق صفوف “الرفاق”، لم يطرح غوشيه جانباً كل ما في جعبته، إنما أبقى على “برنامج علم موحد للإنسان يتكون من علوم اللغة واللاوعي والتاريخ”، ومنذ ذلك الحين لم يعد برنامجه الفكري منحصراً في نقد الحداثة، وإنما، تكرس لفهم صيرورتها، ومستقبلها.

من خلال هذا الفهم تكونت لديه الماهية العقلية، التي ترجمت عملياً عبر التزامه، وتقاربه الفكري، مع عدد من البحاثة أمثال عالم الاجتماع كلود لوفور، وعالم الإثنيات بيار كلاستر، والطبيب النفساني غلاديس سوين، وعالما التاريخ بيار نورا وفرنسوا فوريه… وقد تمكن غوشيه من خلال هذه التجربة استخلاص ثلاثة خطوط متقاطعة تميز المنهج العقلي عنده  وهي: التاريخ السياسي للدين،  علم جذور الفرد، ومقاربة مصاعب الديمقراطية، ومع أطروحته آنفة الذكر يدخل غوشيه مدَّخلاً جريئاً ومفارقاً، ليبيِّن أن الأديان لا تعيش إلا ضمن معادلة “الخروج من الدين”.

أما مبرراته النظرية في هذا المجال فتقوم على تناول دور المسيحية الفاعل  والمؤثر في سياق هذا التطور. لقد كانت المسيحية برأي غوشيه نموذجاً حياً لمعادلة “دين الخروج من الدين”. ويبدو ذلك واضحاً في أغرب ما تضمنته المسيحية من وجهة نظر تاريخية، بالنسبة لوحدانية الله عند اليهود والوحدانية بشكل عام، وهي عقيدة التجسّد. فلقد وحد المسيح، الإنسان والإله، وهذا ما تستذكره الكنيسة كل يوم. إن في ذلك يكمن مفهوم خروج الدين من داخل الدين.

أما ما يتصل بسؤالك عن رد فعل رجال الكنيسة فإنني أشير الى ما حدث في العام 1985، تاريخ صدور كتابه غوشيه “إزالة السحر عن العالم.  يومها تأثر جمعٌ من رجال الدين، على رأسهم أسقف مدينة كلير مون فيران ايبوليت سيمون وأسقف مدينة أنغوليم كلود داجن، بأطروحته غير المألوفة حول المسيحية؛ وكان أمراً مفارقاً أن يمضي هؤلاء الى تبني نظرية غوشيه، ويسعون بجرأة أن يجعلوا من الدين المسيحي دين “دخول” الدين في الديمقراطية وحداثتها.

لقد أدرك غوشيه في هذه اللحظة أن رجال الدين الذين تقبلوا بحماس فكرة المسيحية على أنها “دين الخروج من الدين”، لم يفعلوا ذلك لرغبة في الانتحار. ولا بد من أن تكون لهم مصلحة في ذلك، مع أن رؤيتهم تختلف كلياً عن رؤيته. من جهته حاول أن يدرك الأمور كمؤرخ، ومن جهتهم فقد كانوا يحاولون اكتشاف ما عليهم معرفته كرجال كنيسة كونهم مسؤولين عن أبرشيات كاثوليكية.

من وجهة نظر غوشيه أن من حق أهل اللاهوت التفكير بأنه لا فائدة من الاحتماء خلف رؤية ما للمجتمع المسيحي والسلطة السياسية للدين. لقد ماتت هذه النظرية وشبعت موتاً، ويستحيل بالتالي ممارستها. لا بد من إيجاد موقع آخر للديانة المسيحية في مجتمع الخروج من الدين، أي في المجتمع الديمقراطي، وربما وحدت بهذا الخروج انطلاقة جديدة تتطلب تحديداً عميقاً لما كانت عليه الأديان والمسؤوليات التي تسلمتها. أي تكييف العقيدة الكاثوليكية مع المتطلبات الشرعية لعالم ديمقراطي.

الغيب والعقل

ـ استناداً إلى قراءتكم للنقاش الجاري في الغرب على هذا الصعيد، هل ترون إمكانية إجراء مصالحة بين المجتمعات الإسلامية كمجتمعات دينية وبين العلمنة؟

ـ حيدر: برأيي ليس ثمة من حرجٍ في مواجهة هذا السؤال هو من النوع المضنون به على أهله. أقصد أنه قلما يطرح بجدية سؤال حول إمكان انعقاد حوار خلاق بين الإسلام والعلمانية. في تصوري، لقد آن الأوان لكي تغادر النخب العربية والإسلامية كهف التضليل المعرفي الذي لا يزال يستحكم بها منذ انهيار الخلافة الإسلامية وبداية عصر الاستعمار الجديد. ولعل من أظهر وأخطر عناوين الظلال المعرفي هو الفصل الجائر الذي ورثناه عن الحداثة بين العقل والغيب أو بين العلم والدين، أنا من الذين يقولون بأن ليس ثمة صراع جوهري بين الإيمان بالوحي والوظيفة الإدراكية للعقل. ومتى فُهِمَ ذلك على النحو الأتمّ، ظهرت الصراعات السابقة بين الإيمان والعلم في ضوءٍ مختلف تماماً. فالصراع في حقيقته لم يكن بين الإيمان والعلم، بل بين إيمانٍ وعلمٍ لا يعي كل منهما بعده الحقيقي. من قبيل المثال غير الحصري: لم يكن الصراع الشهير بين نظرية التطور الداروينية، ولاهوت بعض الطوائف المسيحية صراعاً بين العلم والإيمان، بل صراعاً بين علمٍ يجرد إيمان الإنسان من إنسانيته، وإيمان حوّله لاهوت السلطة إلى أيديولوجيا، ومن ثَمَّ إلى حرب مفتوحة على العقل.

الاستغراب السلبي

ـ إذا كان هذا هو حال السجال الفكري في الغرب فما هو برأيكم حال الفكر العربي الإسلامي وهو ينظر الى الآخر؟

ـ حيدر: يبدو لي، وسط ما أسميه “جيولوجيا العنف” التي يعيشها عالمنا العربي الإسلامي اليوم، إننا أمام ضربٍ من التآكل الذاتي، وبسبب من ذلك بدا الفكر العربي المعاصر مضطراً إلى استئناف ما دأب عليه منذ أكثر من قرن مضى فيما يتعلق بأسئلة النهضة والتناظر مع الغرب فكرياً ومعرفياً. ولكن للإنصاف لا بد من الاعتراف بالمجهودات الوازنة التي بذلها مفكرون عرب ومسلمون من أجل تظهير علم معاصر يُعنى بمعرفة الغرب، ويكون نظيراً مقتدراً تلقاء علم الاستشراق وثقافته، واقع الحال اليوم بالنسبة لحركة الفكر في بلادنا هو في الغالب الأعمّ سليل الماضي المستمر. فما هو بائنٌ في المشهد، يفيد بأنّ ثمة بيئات مترامية الأطراف من نخب العالمين العربي والإسلامي، لم تفارق مباغتات الحداثة في صعيديها المعرفي والتقني. وتلك حالة سارية لا تزال تُعرِبُ عن نفسها بوجوهٍ شتى:

*وجهٍ يتماهى مع الحداثة ومنجزاتها تماهياً ختاميًاً لا محل فيه لمساءلة أو نقد.

* ووجهٍ يتبدَّى على صورة معارضات انفعالية لا تكاد تؤتي أُكْلَها حتى تذوي إلى محابسها الإيديولوجية.

* وثالثٍ يأتينا على صورة محاولات ووعود واحتمالات جادة، ثم لا يلبث ان يظهر لنا بعد زمن، قصور هذه المحاولات، وعدم قدرتها على بلورة مناهج تفكير تستهدي بها أجيال الأمة لحل مشكلاتها الحضارية.

– يبدو أنكم في وارد السعي لبلورة مناهج ومفاهيم جديدة تفتح باب الاستقلال عن الغرب، هل أوضحتم لنا مسعاكم هذا؟

– حيدر: أحد أوجه مسارات التفكير التي نأخذ بها لإنجاز مهمة الاستقلال الفكري، وهي مهمة شاقة وتحتاج إلى الكثير من التدبر والصبر، هو مراجعة فهمنا للغرب وإعادة قراءته من خلال التعرُّف على مناهجه وأبنيته الفكرية والثقافية والأيديولوجية، وقراءتها بروح نقدية عارفة. وعلى نحوٍ موازٍ، ترمي الى الإضاءة على التحولات المعرفية الجارية على نطاقٍ عالمي، وفي العالمين العربي والإسلامي بنوع خاص. وعليه يمكن تلخيص الغاية الاجمالية لمسعانا من خلال العناية بأربع ضرورات:

أولاً:  ضرورة تاريخية، أوجبتها التحولات الحضارية التي حدثت في مستهل القرن الحادي والعشرين. حيث بدا بوضوح لا يقبل الريب، أن حضور الإسلام عقيدة وثقافة وقيماً أخلاقية لم يعد في نهايات القرن المنصرم مجرد حالة افتراضية، وإنما هو حضور له فاعلية استثنائية في رسم الاتجاهات الأساسية لراهن الحضارة الإنسانية ومستقبلها.

ثانيا: ضرورة توحيدية، ويفترضها التشظِّي الذي يعصف بالبلاد العربية والإسلامية ويجعل نُخبها ومثقفيها ومكوّناتها الاجتماعية، أشبه بمستوطنات مغلقة. وَتَبَعاً لهذا التشظّي وكحاصل له، تنحدر هموم الأمة إلى المراتب الدنيا من اهتماماتها.

ثالثا: ضرورة تنظيرية، وتتأتى من الحاجة إلى استيلاد مفاهيم ونظريات ومعارف من شأنها تحفيز منتديات التفكير، وتنمية حركة النقاش والسجال والنقد.. والى ذلك كذلك، الحاجة إلى تسييل حركة الفكر العالمي من خلال التعريب والترجمة والنقد، وعلى نحو يسهم في تفعيل مشتغلات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وإقامتها على نصاب الحيوية والجِدَّة.

رابعا: ضرورة‌ معرفيّة، وتنطلق من أهمية وجود رابط معرفي يؤسس لمنطقة جاذبية تتداول فيها نخب المجتمعات الغربية والإسلامية الأفكار والمعارف، وتمتد عبرها خطوط التواصل والتعرف في ما بينها.

إن ما يستحثنا على تفعيل مثل هذه المقاربة هو وجوب تفكيك اللَّبس الذي تراكم في الوعي العربي الإسلامي على امتداد أجيال من المتاخمة والاحتدام مع مواريث الحداثة الغربية بوجهيها المعرفي والكولونيالي. في سياق هذه المهمة يحدونا الأمل إلى بلورة نظرية معرفة ترسي قواعد فهم جديدة للأسس والتصورات التي يقوم عليها العقل الغربي، وهو الأمر الذي يفتح باب الإجابة على التساؤل عما لو تيسَّر لنا ان نكوِّن فهماً صائباً عن غربٍ أنتج شتى انواع الفنون والقيم والأفكار، وجاءنا في الوقت عينه بما لا حصر له من صنوف العنف والغزو والحروب المستدامة.

– أين النخب العربية والإسلامية من كل هذا السجال الجاري الآن في الغرب ما الذي عليها ان تفعله لترسم خارطة الطريق الى المستقبل؟

-حيدر: إن من أهم العناصر الدافعة إلى التنظير والمراجعة، هو جلاء حقيقة أن لمعارف الغرب حواضن في المجتمعات العربية والإسلامية تتلقى تلك المعارف وترعاها، ثم لتعيد إنتاجها على النحو الذي يريده لها العقل الغربي نفسه. بيان ذلك أن هذا الأخير، يجد لدى نخب تاريخية واسعة في مجتمعاتنا من يتماهى معه في خطبته ومنطقه، أو أن يمتثل إلى معارفه المستحدثة. هذا حال من جاز أن يُنظر إليهم وهم على نصاب «الاستغراب السلبي». فما نعنيه بهذا النوع من الاستغراب، هو ناتج تفاعل مركّب بين دهشة العربي المسلم بحداثة الغرب ومنجزاتها من جهة، وطريقة تعامله معها من جهة أخرى. فبنتيجة هذا التركيب على الإجمال، بدا هذا «المستغرِب» في حالة استلاب وتبعية لمنظومة الغرب وخصوصياتها، وتالياً كامتداد محلي لها.

أما حاصل الأمر، فكان أدنى إلى استيطان معرفي لا يفتأ يستعيد أسئلة الغرب وأجوبته على نحو الاذعان والتسليم. ولسنا نغالي لو قلنا أن الاستغراب السلبي الذي نقصده لوصف أحوال شطر وازن من مثقفي العالم الإسلامي، هو فكر أنتجته الدهشة، ووسَّعته الترجمة، ورسَّخته الهيمنة، ثم لترتضيه نخب وازنة من مجتمعاتنا فتتخذه سبيلاً لفهم ذاتها وفهم غيرها، فضلاً عن فهم العالم من حولها في الآن عينه.