إن الإنسان في حياته الأرضية محكوم بقوانين لا يستطيع الانعتاق أو الانفلات منها. ومن هذه القوانين قانون الزمن، الذي يترك آثاره على الأبدان والعقول، فيحسب به الإنسان عمره، ويؤدي عباداته ومناسكه، ويضبط به أنشطته ومعاملاته وممارساته..

وأقسى شيء على السجين التباس ليله بنهاره فلا يدري في أي وقت هو، أو في أي زمان يعيش. والمغيّب عقله لا يشعر بالزمن، فهو حي أشبه بالأموات.

لكن ما هو الزمن؟

الزمن “هو مقدار حركة الفلك”([1])، أي أنه ناشئ عن دوران الكواكب حول شموسها. فيوم الأرض غير يوم عطار غير يوم زحل… إلخ. وهذا يعني أن الزمن قبل خلق السموات والأرض كان منعدمًا. وأنه نسبي.

 نسبية الزمن

وقد أخبر المولى -تعالى- عن اختلاف تقدير الأيام في أكثر من موضع في القرآن، فقال:

1- ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: 47].

2- ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة: 5].

3- ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4].

الأفعال في القرآن

الناظر للأفعال في القرآن الكتاب يجد أنها لا تسير على النسق الذي نعرفه في النحو من: ماض ومضارع، وذلك إذا كان لها ارتباط بالله -تعالى- وأفعاله.

فالله -تعالى- خالق الأماكن والأزمان، ولا يجري عليه ما نعرفه من وقت وزمن. ويتجلى ذلك مما يتجلى في أمثال قوله -تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: 1].

فكيف لأمرٍ أتى في الماضي ألا نستعجله في المستقبل؟

فقيل: لأنه واقع لا محالة ومتحقق بلا شك.

لذا فقد تحدث عن المستقبل بصيغة الماضي؛ فالساعة ستقع ستقع، والعذاب لاحق بالكفار لا محالة، سواء استعجل المستعجلون أو لا، وقضاء الله بذلك يجعله أمرًا مقضيًّا. وعليه فإن الله لا زمن عنده؛ فهو خالق الزمن. والزمن يجري على الخلق، ولا يجري على الخالق. فهو -تعالى- خالق الزمان والمكان.

لذا كانت إجابته للمؤمنين عند سؤالهم عن وقت نصره لهم بعد البلوى بأنه قريب.

فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].

فالسؤال بـ (متى) سؤال عن الوقت.

وهذه المسألة لها مدخل في قضايا كلامية معقدة، مثل: قضية الكلام، وقضية النزول إلى السماء الدنيا… إلخ، وهي ما تسمى “الصفات الاختيارية” أو “الأفعال الاختيارية” كما سماها شيخ الإسلام ابن تيمية.

فنحن نخطئ عندما نجعل الكلام والنزول خاضعًا للزمن بمفهومنا. وعلينا أن نتحرر من مسألة الزمان عند القراءة في الأفعال الإلهية.

الخلود

كلما تفكّرت في حال البشر يوم القيامة، ودخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار، وخلود أصحابهما أبد الآباد، فإن عقلي لا يتصور ذلك، وإدراكي المحدود المحجوب بعوالم الفناء لا يتصور حياة بلا موت. حتى لو تصورت النعيم في الجنة، فأقول: سوف أنعّم ألف سنة. لا، بل مليون… لا، بل بليون… لا، بل أكثر. فيصرّ عقلي على الوصول إلى النهاية.

وهناك لا نهائية، هناك لا وقت، هناك لا موت.

فالموت يُذبح على الصراط؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -: “يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ! فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ.

ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ! فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ.

فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ”([2]).

أما الشمس والقمر والأفلاك التي تدور فينشأ من دورانهم الوقت سوف يكونون في جهنم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه، عن النبي -عليه السلام- قال: “الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”([3]).

وربنا -تعالى ذكره- يقول: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا﴾ [الإنسان: 12-13].

إنه نور الله -تعالى، فلا فناء.

فالخلود يعني: لا وقت أو زمن. يعني: لا موت أو فناء. وعليه فإن الإنسان له بداية ولا نهاية له، والموت ليس نهاية الحياة، بل مرحلة من مراحل الخلود والأبدية.

ولذلك لم يتصور بعض المعتزلة فكرة الخلود والسرمدية للإنسان مثل أبي الهذيل العلاف فقال بفناء “حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة”([4])، فـ”الجنة والنار لا يفنيان، ولا يفنى أهلها، إلا أن حركاتهم تفنى، ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون، وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون”([5]).

فالزمن قيد في الدنيا على الإنسان، ثم ينحل هذا القيد، وينطلق الإنسان في السرمدية التي لا تنقطع، والأبدية غير المتناهية في جانب المستقبل، “مدة لا يتوهم انتهاؤها بالفكر والتأمل ألبتة؛ وهو الشيء الذي لا نهاية له”([6]).

فلا يكبر الإنسان أو يشيخ. إنها ديمومة النعمة، والصحة، والمتعة، والملذة.

﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 136].


([1]) التعريفات للجرجاني، ص(152).

([2]) أخرجه البخاري في “التفسير”، باب: “قَوْله: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾”، ح(4730).

([3]) أخرجه الطحاوي في “شرح مشكل الآثار”، (1/170)، وقد ذكره الألباني في “السلسلة الصحيحة”، (1/192).

([4]) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ص(420).

([5]) الملل والنحلل لابن حزم، (4/70).

([6]) التعريفات للجرجاني، ص(21).