الاهتمام الغربي بالإسلام ليس وليد اللحظة الراهنة، إذ تحكي بيرجيت شابلر” Birgit Schäbler _المؤرخة الألمانية المتخصصة في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط_ في كتابها “المسلمون المعاصرون.. إرنست رينان وقصة أول مناظرة إسلامية”([1]) الصادر بالألمانية في منتصف عام (2016م)، قصة أول جدال مشهور بين الإسلام والغرب، والذي أشعله محاضرة المفكر الفرنسي الشهير “إرنست رينان” في مارس (1883م)، عن “الإسلام والعلوم” في العاصمة باريس، وتحدث فيها بشكل سلبي عن قدرة الإسلام على صناعة التاريخ، وادّعى أن الإسلام والحداثة على خلاف، وزعم أن المسلمين اتخذوا “كراهية العلم” شعاراً لهم، وأن الإسلام لم يكن متسامحا إلا عندما كان ضعيفا.
الغريب أن قصة المناظرة وما أثارته من جدل وطرحته من قضايا مازال صداه يشغل الفكر عربيا وغربيا حتى تلك اللحظة، وهو ما يؤكد صدور كتاب الأكاديمية ” بيرجيت شابلر ” في حوالي (286) صفحة بعد ما يقرب من مائة وأربعين عاما على المناظرة.
السياق المأزوم
والحقيقة أن محاضرة “رينان” جاءت في سياق موقفه الناقد للأديان، فرغم أن بداية حياته كانت دينية كهنوتية، إلا أن غادر الكنيسة وارتمي إلى الحداثة بكل ثقله، فكان موقفه من الدين موقفا متشددا، غذته الحالة الفرنسية ذات العلمانية الإقصائية للدين، إضافة إلى أن التيار الاستعماري الغربي منذ القرن الثامن عشر كان في لحظة انطلاق وعنفوان، وكان المسلمون هم الاستهداف الأول للاستعمار، وكانت فرنسا حاضر بآلتها العسكرية الاستعمارية في شمال إفريقيا، كما أن الدولة العثمانية -التي كانت تمثل الرمز السياسي للمسلمين في العالم- يتصدع بنيانها، وحالة التراجع الثقافي والفكري تفرض غيومها الكئيبة على الواقع الإسلامي.
في هذا السياق المأزوم والمغري بانتصار الحداثة على الدين، وانتصار الغرب على المسلمين، جاءت المحاضرة، ويبدو أن “رينان” ظن أن المسيحية رفعت رايتها البيضاء أمام العلمنة والحداثة، وأخذت تلملم أفكارها لتتوارى بصمت المهزوم وخجله، وحان الوقت للإسلام لينسحب هو الآخر من المشهد سواء الفكري المتمثل في استمرار حضور الدين وهيمنته، أو المسلمين باعتبارهم أعنف المقاومين للظاهرة الاستعمارية الغربية الحديثة.
المحاضرة العنصرية
لم يكن “رينان” بعيدا عن فهم الحضارة الإسلامية، إذ كانت رسالته للدكتوراه عام (1852م) بعنوان ” ابن رشد والرشدية” تناول فيها فلسفة ابن رشد وتأثيرها في الغرب، حيث احتلت تلك الفلسفة مكانها البارز في الفكر الغربي لقرون، ورأى “رينان” أن الشرط الأساسي من أجل انتشار الحضارة الأوروبية يكمن في تدمير سلطة الإسلام الدينية، وأن يتحوّل الإسلام إلى دين فردي لأن في ذلك زواله، وقد تقاطعت أفكار “رينان” مع الأفكار العرقية التي كانت منتشرة في أوروبا في تلك الفترة.
أما ما يتعلق بالمحاضرة فقد نشرها “رينان” في عام في مايو (1883م) في “مجلة المناظرات” Journal des Débates، وترجمت المحاضرة إلى أكثر من لغة وعرفت انتشارا كبيرا وقتها، وكان من أبرز من رد عليها من علماء المسلمين، “جمال الدين الأفغاني” و والمفكر التركي “نامق كمال” ، ومفتي سان بطرسبرغ عطاء الله بايزيدوف.
وفي هذه المحاضرة أكد “رينان” أن الإسلام كدين لا علاقة له بالنشاط الفكري الفلسفي، ولا بالنشاط العلمي، وأن موقف الإسلام من العلم يمرّ بمرحلتين، الأولى، مرحلة التسامح حيث كان الإسلام ضعيفا، وامتدت هذه المرحلة حتى القرن السادس الهجري، والثانية، مرحلة التعصب، وبدأت من القرن السابع الهجري وحتى وقته، حيث اتخذ الإسلام مع الهجمات التترية العنيفة على بلاده موقفا دفاعيا متعصبا منغلقا.
وفي اليوم التالي مباشرة لنشر محاضرة “رينان” كتب “جمال الدين الأفغاني” تعقيبا عليها نشرته الجريدة، إلا أن رد الأفغاني كان يتقاطع في بعض جوانبه مع كلام “رينان” خاصة في موقف الدين من الفلسفة، وذكر أن “رينان” يذكره بالملحدين العظماء، واختتم الأفغاني تعقيبه بالتأكيد على أن الصراع بين الدين والفلسفة سيظل قائما طالما بقيت البشرية، والانتصار لن يكون للفكر الحر، لأن العقل يزعج الجماهير.
تعقيب الأفغاني لم يرق لكثير من المصلحين المسلمين كالشيخ محمد عبده الذي أرسله رسالة غامضة من منفاه في بيروت، بها عبارات تبدو ملبسة مثل:” “لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين”، ويبدو أن تعقيب الأفغاني قد تأثر بمجريات السياسة الدولية وقتها، فالشيخ مصطفى عبد الرازق في محاضرة ألقاها بالجامعة المصرية عام (1923م) بعنوان “ذكرى رينان” انتقد فيها تعقيب الأفغاني على “رينان” وفسر ذلك برغبة الأفغاني السياسية في استمالة الفرنسيين ضد الإنجليز.
وقد عقب “رينان” على تعقيب الأفغاني، وقال:”فللإسلام جوانب جميلة من حيث هو دين، وأنا لم أدخل أبداً مسجداً دون أن تستولي عليّ عاطفة شديدة، هل أعلنها؟ إنها شعور بالأسف لعدم كوني مسلماً”، لكن لم يغير رؤيته العنصرية والكارهة في محاضرته.
وقد نشرت الترجمة الكاملة لمقالة الأفغاني للمرة الأولى في كتاب محمد الحداد “الأفغاني صفحات مجهولة من تاريخه” في العام (1997)، وفي العام (2005) نشر مجدي عبد الحفيظ دراسة كاملة وترجمة تامة للمناظرة في كتابه “الإسلام والعلم.. مناظرة رينان والأفغاني”.
ورغم النظرة المتعصبة لـ”رينان” ضد الإسلام وحضارته، فقد عرفت أوروبا في ذلك الوقت رؤى أكثر تسامحا وإنصافا للإسلام، فبعد عام من تلك المناظرة، أصدر غوستاف لوبون في العام (1884) كتابه الشهير “حضارة العرب” الذي أبرز دور العرب الحضاري، ولقي الكتاب ترحيبًا كبيرًا حتى إن الشيخ محمد عبده ذهب بنفسه في العام (1903م) إلى بيت “لوبون” ليشكره على الكتاب، كما أصدر الألماني “كارل بروكلمان” في الفترة ما بين (1897 م) و(1902م) موسوعته الضخمة “تاريخ الأدب العربي” الذي يعدّ إلى اليوم المرجع الأكبر في مساهمات العرب الأدبية والعلمية، ثم أصدر الفرنسي “كرّا دي فو” كتابه “مفكرو الإسلام في خمسة أجزاء، وكذلك الألماني “آدم ميتز” كتابه الشهير “نهضة الإسلام” .
[1] عنوان الكتاب بالألمانية: ” Moderne Muslime: Ernest Renan und die Geschichte der ersten Islamdebatte 1883″
*أرنست رينان- ابن رشد والرشدية- ترجمة عادل زعيتر- دار إحياء الكتب العربية-الطبعة الأولى:1957
*مجدي عبد الحافظ – الإسلام والعلم مناظرة رينان والأفغاني- المجلس الأعلي للثقافة- القاهرة-2005
*محمد الحداد- الأفغاني صفحات مجهولة من حياته دراسات ووثائق-دار النبوغ-بيروت-الطبعة الأولى:1997
*سمر مجاعص- موقف أنست رينان من المشرق والإسلام-رسالة ماجستير غير منشورة بالجامعة الأمريكية ببيروت-1991