في الربع الأخير من القرن الماضي ظهرت بوادر تشكل تيار معرفي يرنو إلى تضمين المعرفة الإسلامية ضمن المناهج والأدوات الأكاديمية، وضمن هذا الإطار تبرز مدرسة المنظور الحضاري التي تشكلت نواتها الأولى على يد الدكتور حامد ربيع (1924-1989 م) الذي اتخذ من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة منطلقًا لإعادة إحياء المفاهيم والقيم الإسلامية وتضمينها ضمن حقل العلوم السياسية واتخاذها أداة لنقد المنظورات الغربية الوضعية، ثم تطورت هذه المدرسة على يد بعض تلامذته المباشرين كمنى أبو الفضل وسيف عبد الفتاح ولا تزال هذه المدرسة ترفد المجال المعرفي ببعض الرموز والأفكار عبر موجة ثالثة ورابعة من الباحثين الشباب، وفي السطور التالية نعرض لإسهامات واحدة من رواد هذه المدرسة وهي الدكتورة منى أبو الفضل (1945-2008 م).

المنظور الحضاري والمعرفة التوحيدية

ويتعذر علينا التعريف بإسهاماتها قبل أن نتوقف لاستجلاء بعض المفاهيم التي قامت بنحتها في سبيل تعاملها مع الظواهر الفكرية، وفي القلب منها يقع مفهوما: المنظور الحضاري، والرؤية التوحيدية، اللذان قامت بتفعيلهما واتخذت منهما أداة للاقتراب في إطار دراساتها الأكاديمية.

وقد شرعت منى أبو الفضل في بلورة مفهوم “المنظور الحضاري” منذ مطلع الثمانينيات من القرن الفائت وهي العائدة من بعثة دراسية حصلت خلالها على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لندن والتي أمضت معظم حياتها بالخارج، وعلى خلفية قيامها بالتدريس لاحظت قصور الأدوات والمناهج الغربية عن الإحاطة ببعض الظواهر الاجتماعية في العالم العربي وهو ما أرجعته إلى الطابع التعميمي للأدوات والمناهج الغربية، وعدم إدراكها لطبيعة التباينات الحضارية، وتغافلها عن واقع الخصوصية الذي يميز بيئة حضارية عن أخرى.

وتذكر أبو الفضل أن إدماج مفهوم “الحضاري” ضمن المجال الأكاديمي لم يكن يعني بالنسبة إليها أن تقوم بتدريس مادة النظم السياسية العربية في الجامعة على خلفية “لوحة جدارية” هي الحضارة العربية، وإنما كان يعني تفعيل فكرة الحضارة ضمن مفاهيم وأطر واقترابات منهجية وإدخالها إلى حيز البحث العلمي، وطيلة عقدين من الزمان عملت على صقل المفهوم وتطويره واستخدامه في حقول معرفية متعددة حتى بات نسقا معرفيا متكاملا قابلا لأن يوظف ويطبق لدراسة الظاهرة الاجتماعية، ولم يعد قاصرا على ظاهرة السلطة أو حقل العلوم السياسية، وكان من نتيجة ذلك أن شاع استخدام المنظور الحضاري من قبل باحثين ينتمون لحقول معرفية متعددة حتى أضحى مدرسة تتعدد فيها المفاهيم والمداخل.

والمنظور الحضاري -كما تذهب أبو الفضل- لا يتطابق مع مفهوم المنظور الإسلامي، ولا يعني بالتالي صلاحيته للتطبيق على الظواهر والمجتمعات الإسلامية وحسب؛ ذلك أنه رغم استمداده مفاهيم وقيم ومعاني إسلامية إلا أن توظيفها وتفعيلها يتم ضمن الإطار المعرفي وخدمة لأهداف بحثية؛ فهو نسق معرفي مفتوح يمكن توظيفه في قراءة التاريخ الإنساني والثقافات المتباينة ولذلك يصعب وصفه بأنه  توظيف أيديولوجي للدين في نطاق البحث العلمي..

ويستبطن المنظور الحضاري منظومة معرفية توحيدية، وهي تتميز بقيامها على إطار مرجعي جامع هو التوحيد الذي ينفتح على عالم الغيب والشهادة انفتاحا مزدوجا؛ إذ ينفتح انفتاحا رأسيا حين تأخذ مصادره المعرفية بالوحي ممثلا في القرآن الكريم وينفتح أفقيا على الشعوب والحضارات المتباينة “الآخر”، وبهذا المعنى هو نسق معرفي يتجاوز الخصوصية والذاتية ليأخذ بسنة التعارف القرآنية.

وتقارن منى أبو الفضل المنظومة المعرفية التوحيدية بالمنظومة الغربية الحداثية فتجد أن الإله هو ركيزة ومحور المنظومة المعرفية التوحيدية أما المنظومة الحداثية فقد أقصت الإله وأحلت الإنسان محله باعتباره مركزا ومرجعية، وأضفت عليه صفة الإطلاق وصبغت بقية العناصر بالطابع النسبي، وقد ولدت هذه النسبية -حسب أبو الفضل- نوعا من التأرجح في الثقافة؛ حيث تتأرجح الأفكار كبندول الساعة بين طرف ونقيضه، بين المثالية من جهة والمادية من جهة أخرى.

وعلى الجهة الأخرى تتسم المنظومة التوحيدية بالكلية والشمول التي يقدمها مفهوم التوحيد “الصرة العاقدة الجامعة” حين يربط بين الأبعاد المتباينة الثلاثة: الغيب والطبيعة والإنسان التي تؤلف المعرفة وبدونه تتفكك هذه العناصر ولا تربطها صلة، ولا يعني قيام المنظومة المعرفية على التوحيد أنها تقصي المناهج المعرفية على اختلافها وإنما هي منظومة استيعابية تتيح توظيف المناهج الغربية بعد تطويعها وتنقيحها بما يتلاءم مع طبيعة الموضوع المبحوث.

دراسات المرأة والمنظور الحضاري

في خضم انشغالها بدراسة الفكر الغربي ونقد أطروحاته بدأ اهتمام منى أبو الفضل بملف المرأة المسلمة دون تخطيط منها بعد أن استرعى انتباهها الأهمية التي يحظى بها هذا الملف في دوائر الفكر الغربي والتي تزايدت في الربع الأخير من القرن الماضي الذي حمل متغيرين أساسيين في التعاطي مع قضايا المرأة: الأول: حين تم التأسيس للدراسات النسوية باعتبارها حقلا معرفيا في إطار الأكاديميات الغربية. والثاني: تحول قضايا حقوق الإنسان وضمنها قضايا المرأة إلى أداة يتم توظيفها بيد القوى الكبرى المهيمنة لإحداث التغيير في المجتمعات التي بدت عصية على الحداثة.

ولعل هذين المتغيرين هما اللذان دفعا منى أبو الفضل أن تضع نصب عينيها ضرورة التأصيل لخطاب عالمي يتعامل مع قضايا المرأة من منظور حضاري، وللخروج بتلك الرؤية إلى حيز التنفيذ قامت بتأسيس كرسي زهيرة عابدين للدراسات النسوية في الولايات المتحدة عام (1998)، وأشهرت جمعية دراسات المرأة والحضارة بالقاهرة في العام التالي مباشرة، وقد حملت أدبياتهما صورة للخطاب الذي ارتأته أبو الفضل حول المرأة.

آمنت منى أبو الفضل بأن تجاوز المنظور النسوي الوضعي السائد لا يتم إلا عبر إسقاط المفاهيم الغربية وإحلال المفاهيم القرآنية محلها، وفي هذا الصدد توصلت إلى أن مفهوم “النفس الواحدة” مفهوم محوري بما يؤكد عليه من الوشائج التي تربط النساء بالرجال في إطار العبودية لله، وتوقفت أمام مفهوم “التكليف” الذي يشمل جميع بني الإنسان، و”التقوى” كمعيار للتمايز عند الله، وهي مفاهيم تناقض مفهوم “السلطة” المركزي في الفكر النسوي الذي يتمحور حول القوة والسيطرة، ووفقا للمنظومة التوحيدية فإن السلطة والطاعة والخضوع إنما يكون لله في إطار عقيدة جامعة يشترك فيها الخلق جميعا رجالا ونساء.

وإلى مفهوم آخر أصيل يمكن أن يشكل منطلقا في التعامل مع المرأة تتوقف منى أبو الفضل أمام مفهوم “الولاية” القرآني كما صاغته الآية الكريمة {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} (التوبة: 71) والذي من شأنه أن ينقل مركز الثقل من مفهوم القوة والصراع في النسوية الغربية إلى مفهوم آخر مغاير وهو التضامن والتماسك في إطار الجماعة الإسلامية.

لقد استطاعت منى أبو الفضل من خلال بحوثها طرح معالم قراءة نسوية بديلة تميزت بعدة خصائص؛ فهي قراءة واعية بالمنطلقات والغايات التي يستبطنها الخطاب النسوي، وواعية بما يطلق عليه “ما قبل المنهج” الذي يتحكم في الأجندة البحثية ويحدد مسبقا المفاهيم والأطر والتساؤلات والذي يجعل البحث العلمي لا يبرح أطره المرسومة، ويعيد إنتاج مقولاته دون أن يتجاوزها إلى غيرها، وحسبما تذهب أبو الفضل فإن الوعي بهذه البنية المستبطنة يسمح للقراءة البديلة أن تتحرر من أسر القراءة السائدة وتنطلق من أسئلة أخرى غير معهودة لتصل إلى نتائج جديدة تفتح آفاقا جديدة أمام البحث العلمي.

وتتسم القراءة البديلة كذلك بكونها قراءة نقدية قادرة على نقد الخطاب النسوي السائد وتفكيك مقولاته، وهذا لا يعني أن غايتها هو الهدم والتقويض وحسب وإنما غايتها الحقيقية  كما تقول هو تجاوز ذلك إلى بناء خطاب جديد يتسم بالكلية والشمول، ومن ثم قدرته على التعامل مع الظواهر الحضارية المركبة.

وختامًا لهذا الاستعراض الموجز لأبرز إسهامات منى أبو الفضل في تعريف المنظور الحضاري وتوظيفه يمكن القول أنها سعت إلى تأسيس معرفة بديلة انطلاقا من الأرضية الحضارية واستنادا إلى مفاهيمها وقيمها، واستطاعت تقديم نَوَيَات أولية وإطار منهجي مقبول يمكن مواصلة البناء عليهما لإنتاج معرفة إسلامية تتجاوز نقد المعرفة الغربية وتساهم في بناء وتطوير المعرفة الإنسانية.