تنطلق هذه الرسالة من مسؤوليات المعلم العربي في ظل الظروف الراهنة التي تعيش فيها الأمة والتحديات التي تواجهها والمخاطر الوجودية التي تتعرض لها، ومن ناحية أخرى تأتي في ضوء مسؤوليات المعلم العربي والتي لا يمكنه التخلي عنها أو التخفف منها – مهما كانت حالته والظروف التي بمر بها هو الآخر ومهما كانت أوضاعه الاقتصادية والمهنية المتهالكة في المشرق العربي وجنوبه – فإن مسؤوليته الأخلاقية قائمة وهو لها بما قدر الله له هذه الرسالة، فكلكم مسؤول وكلكم مسؤول عن رعيته وما أغلاها رعية عند الناس وعند الله.

مسؤولية المعلم الوجودية قائمة بصفته مستخلف في الأرض وعليه أن يؤدي رسالته الاستخلافية وما أعظمها من رسالة تؤدى تجاه الإنسان مخلوق الله وخليفته في الأرض، ثم المسؤولية الثالثة والأخيرة وهي المسؤولية الحضارية فالمعلم العربي ابن حضارة الفسيلة التي عليه أن يغرسها حتى إذا قامت القيامة فله بها أجر وذلك مصداقًا لقوله ” إن قامت القيامة وفي يد أحكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر” .

1 – الخطاب الأخلاقي

لا بديل عن إنقاذ ما تبقى من المجتمع العربي, والمحافظة على ما بقي من نسيجه الاجتماعي إلا عبر الخطاب الأخلاقي, ولا بديل عن أن يخوض المعلمون والمعلمات داخل جدران المدرسة -التي تحطمت بفواعل عدة- معركة أخلاقية واسعة وممتدة، وتلك هي المعركة التي تغافلت عنها كافة المؤسسات المعنية المسئولة عن تربية وبناء الإنسان العربي، بل إن بعض تلك المؤسسات تحولت إلى مدافع تضرب في البناء الأخلاقي للمجتمع..

إذاً من الضروري  إحياء رسالة “المدرسة الأخلاقية” وبوجه عاجل، ولابد من وجود مناضلين من المعلمين في هذه المعركة الأخلاقية التي لا يقوم بها غيرهم وسط هذا الازدحام المرضي، ووسط كل تلك الآفات القيمية المزمنة، لابد من تأسيس تيارات للدعوة إلى الفضيلة من بين التلاميذ أنفسهم نغرس فيهم القناعة بضرورة هذه الدعوة وبأهميتها على مستوى الفرد والمجتمع وفي الدنيا والآخرة.

2 – وقف نزيف القيم

من المهم أن يدرك أبناؤنا المربون أن بأيديهم فقط يمكن أن يوقف نزيف القيم في المجتمع، وأنهم وبأيديهم فقط يستطيعوا أن يضمدوا جراح القيم في مجتمعنا، وأنهم وبأيديهم فقط يمكنهم متابعة سبل الشفاء حتى المعافاة الكاملة من آفات ذلك النزيف..وأنهم وبأيديهم فقط أن يفعلوا كل ذلك حين يدركون- وهم مدركون بالفعل- أن هذه هي الرسالة الحقيقة لهم لمواجهة موجة الانحلال القائمة كالإعصار وبكل قوة.

وهذا يتطلب من كليات التربية أن تعني بإعداد المعلم الرسالي الذي يرى أن مهمته بحق هي مهمة الأنبياء والرسل، وأنه ماض في تأدية وظيفتهم الإلهية الأخلاقية على الأرض، مهما واجه من صعوبات ومعوقات. وهنا لابد من تنشئة التلميذ على التعلق إلى القيمة العليا في الإسلام وهي التوحيد، وربط أشواق التلميذ بهذه القيمة، التي ينبغي أن تتجلى كمثل أعلى في حياته الأخلاقية والمادية معًا، وأن تتمحور حياته وأنشطته وضوابط حركته حولها, فالطفل وفي مراحل مبكرة ينشغل في تفكيره بمثل أعلى معنوي كما ينشغل بمثل أعلى مجسد, ويسعى إليه بتفكيره وإرادته أو بهما معًا، وهذا المثل الأعلى هو الذي يحرك الطفل يحرك سلوكه ودوافعه ووجدانه نحو الإنجاز السوي وتبدو مهارة المعلم العربي ورسالته في ذات الوقت في أن يغرس في الطفل تلك القيمة-المثل الأعلى مستندًا إلى فطرة التلميذ النقية وقابلياته المهيئة للغرس والزرع.

3 – الالتفات إلى السبورة الجوانية وبناء الوجدان السوي

لكل طفل وكل تلميذ سبورة (جوانية) يحضرها معه دائمًا وكل يوم، ولا يتخلف ذلك الحضور إلا بغياب التلميذ ذاته وهذه “السبورة الجوانية” هي سبورة الوجدان أو الفطرة التي يولد التلميذ مزودًا بها، والتي تتهيأ أمام المعلم أكثر مما تتهيأ سبورة المدرسة هذه السبورة هي فطرة التلميذ وروحه النقية المتقدة بالقوة والطاقة والحاجة إلى البناء والغرس وذلك عن طريق الكتابة عليها, أما القلم -أداة الكتابة على تلك السبورة- فهو “الكلمة” التي تخرج من ذلك المعلم وتلك المعلمة, وهي التي نرجوها أن تكون “كلمة طيبة” أصلها ثابت وفرعها في السماء, حتى وإن تنافس مع تلك “الكلمة الطيبة” وذلك “القلم” كلمات وأقلام “خبيثة” فباستطاعة المعلم وحسن توكله على الله والاستعانة به والأخذ بأسباب التأهل الجاد والمعرفة الحقة, أن يمحو من هذه السبورة الجوانية للتلميذ كل “ران” وكل “درن” أراد البعض أن يكسوها ويملؤها ويشوهها به, فالوقت الذي يقضيه التلميذ بين يدي المعلم كافٍ, لـمحو “الكلمات والأقلام الخبيثة” التي حاولت أن تستعمر تلك السبورة مبكرًا, وهنا يستخدم المعلم والمعلمة كل أدواتهم المعنوية والعاطفية ويبتكرون وسائلهم لغرس تلك الشجار الطيبة وهذا هو عظيم رسالتهم التي يجدون أثرها في حياتهم الدنيا وفي الآخرة.

4 – تجسيد القيم وتجديد مناشطها

من مسارات بناء الوجدان السوي وتكوين القيم في النشء عامل ” التجسيد” أي “تجسيد القيم” فالطفل في المراحل العمرية الأولى لا تعنيه الكلمات بقدر ما يؤثر فيه “الحدث” أو الموقف” المشاهد والمجسد أمامه فهو الأبقى أثرًا، والأكثر نفعًا في تشكيل وجدان الطفل بما نريد، وإذا اتفقنا على أن مسألة تشكيل الوجدان وبناء القيم ينبغي أن تحتل نصف وقت المعلم مع التلميذ لأن المدرسة معنية بالأساس –كما اتفقت كل الأدبيات التربوية الوطنية والعالمية- ببناء الطفل النفسي والوجداني والقيمي في المقام الأول, ومن العوامل التي تساعد على التجسيد ما يتعلق بتجديد مناشط القيم وتنوعها وابتكارها لاسيما مناشط المواقف التي تتطلب مشاركة الطفل/التلميذ فيها, والمعلم العربي مبتكر جدًا في مسار الأنشطة, ولكننا نضيف لذلك ضرورة قراءة المُـعلم لأهم القيم القرآنية وقيم السيرة النبوية، وكل ما يتعلق بمسألة البناء الوجداني الإيجابي للطفل في الأدبيات التربوية المعاصرة, ويمكن للمعلمين أن يؤهلوا أطفال نابهين لمشاركتهم في هذا الإعداد التربوي.

5 – بناء خارطة للقيم

من المتطلبات العملية لبناء الوجدان السوي, ولمعالجة الآفات العظام التي أصابت الشخصية العربية, ضرورة أن يقوم المعلمون والمعلمات ببناء خارطة للقيم الضرورية للتنشئة عليها في مرحلة التعليم قبل الجامعي ( الطفولة المبكرة والطفولة المتأخرة) وتصميم هرم لتلك القيم يبدأ من القيم الأكثر ضرورية والأكثر حاجة للتعلم والممارسة، وهنا نشير إلى أن هناك قيم منظومة بمعنى أنه يمكن تعليم قيمة واحدة تندرج تحتها قيم عدة, بل وتبني حصونًا في ذات الوقت لمواجهة القيم “الآفة” أو القيم “المريضة” و”الممرضة” على سبيل المثال: قيمة الصدق تعتبر قيمة “منظومة” أو قيمة “أم” تشمل قيمًا تندرج تحتها ويتم تعلمها في سياق تعلم تلك القيمة والتدريب عليها , فقيمة “الصدق” تتطلب تعليم قيم “الأمانة”, و”الوفاء”, كما أنها تواجه في ذاتها “الكذب” و”الخيانة” (كقيم آفة).. وهو ما يتطلب الإدراك الجيد لأبعاد القيم وظلالها وفروعها وحصونها التي يتم تشييدها إذا أُتقن التشييد والبناء.