عرف عن المسلمين عنايتهم ببحث الظاهرة الدينية والتأريخ لها، فقد شرعوا منذ القرن الرابع الهجري بالتصنيف في الأديان وكيفية ظهورها ومبادئها والفروق بينها، حتى ذاع واشتهر لديهم ما يعرف بعلم “الملل والنحل”، ومن أوائل مؤلفاتهم فيه كتاب “جميل المقالات” لأبي الحسن الأشعري (ت: 330ه) و”المقالات في أصول الديانات” للمسعودي (ت: 346ه) و”الفصل في الملل والنحل” لابن حزم الظاهري (ت: 346ه) و”الملل والنحل” للشهرستاني (ت:548ه).

الإسهامات الإسلامية في علم الأديان

يذهب الدارسون في علم الأديان أن المسلمين قد طبعوا علم الملل والنحل بطابعين جديدين لم يسبق إليهما أحد، أحدهما تخصيصهم الأديان بالبحث المستقل بعد أن كان الحديث عنها لدى الأقوام الأخرى يأتي ممتزجا في سياق البحوث العقائدية والكلامية، فكان لهم الفضل في تدوينه علما مستقلا قبل الغرب بعشرة قرون كاملة، أما الآخر فهو أنهم اعتمدوا الدراسة العلمية للأديان بالعودة إلى المصادر الأصلية الموثوقة للديانات ولم يعتمدوا على الأساطير والترهات التي كانت تروج عنها، كما لم يلجأوا لإصدار أحكام قيمية بشأنها بالتصويب أو التخطئة[1].

وعلى الرغم من الإضافات العلمية الإسلامية التي حددت موضوع هذا العلم والأدوات المنهجية اللازمة لدراسته، فقد فتر الاهتمام الإسلامي به بعد قرون حتى بعثه الغربيون في القرن الثامن عشر بعد إدخال تعديلات هامة على صعيد مادة البحث التي اتسعت وشملت أقواما أخرين كالوثنيين والبدائيين إضافة إلى الأمم العريقة في ملتقى القارات الثلاث التي كانت موضوعا للبحث لدى المسلمين، وعلى صعيد المناهج ووسائل البحث التي تنوعت وشملت علم اللغة المقارن وعلم النفس وعلم الاجتماع وسائر ما يمت بسبب إلى ظاهرة الدين.

وعلى خلفية هذا النشاط المعرفي الغربي استؤنف التصنيف الإسلامي في علم الأديان، فشهدت مصر منذ ثلاثينيات القرن الفائت ظهور عدة كتابات في هذا المجال، ويمكن عزو ذلك إلى عاملين مباشرين:

الأول: مشاركة بعض الدارسين في المؤتمرات العالمية للأديان، وهي مؤتمرات كبرى كانت تعقد بصفة دورية في احدى العواصم العالمية بحضور ممثلي الأديان المختلفة، وتستهدف البحث عن المشترك الإنساني فيما بينهم ومقاومة تيارات المادة والإلحاد.

والثاني: قيام جامعة فؤاد الأول -القاهرة حاليا- باستحداث مادة تاريخ الأديان في أواخر الأربعينيات وعهدت إلى الدكتور عبد الله دراز بمهمة وضع المنهج وخطة البحث اللازمين لتدريس هذه المادة، فحفزت بذلك البحث في هذا العلم[2].

الاتجاهات المعاصرة لدراسة علم الأديان

وعلى هذا شهدت المكتبة العربية منذ الثلاثينات صدور بعض المؤلفات في علم الأديان، وبصورة إجمالية يمكن القول أن بعضها أخذ منحى نظريا ككتاب ” الدين والوحي والإسلام” لمؤلفه علي عبد الرازق، وهو عبارة عن محاضرات ألقاها على طلبة الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1931 م ثم ضم إليها بحثين آخرين وأصدرهما في كتاب عام 1945 م وهو مقاربة معرفية دينية فلسفية لهذه المصطلحات الثلاث في السياقين الإسلامي والغربي[3]، وكتاب “الدين: دراسات ممهدة لدراسة تاريخ الأديان” لمحمد عبد الله دراز وهو محاضرات أعدها الشيخ لتكون عونا لطلبة جامعة فؤاد في دراسة تاريخ الأديان تناول فيها معنى الدين وعلاقته بالأخلاق والفلسفة ثم ناقش علاقته بالعلم ودرس مصير الأديان في ظل صعود فلسفات المادة وأهميتها أنها تجمع بين الدرسين الديني والفلسفي، وقد صدرت للمرة الأولى عام 1952 عن المطبعة العالمية بالقاهرة، ثم توالى صدورها بعد ذلك.

أما المنحى الآخر فهو المنحى التطبيقي، ومن أمثلته رسالة “الزمالة الإنسانية” للشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وهي في الأصل بحث أعده لمؤتمر الأديان العالمي المنعقد بلندن عام 1936، وقد شدد فيه على أن الخطر الذي يداهم الإنسانية لا يأتي من أديان المخالفين وإنما يجيء من الإلحاد ومن المذاهب الفكرية التي تزدري الأديان، ووجه دعوته إلى المؤمنين جميعا للعمل على إزاحة العلل التي تحول دون تأثير الشعور الديني في التقريب بين الناس على اختلاف ديانتهم، ولتحقيق هذه الغاية اقترح إنشاء هيئة عالمية تعمل على تنقية الشعور الديني من الأحقاد تكون مهمتها الأساسية توجيه الوعظ الديني في جميع الأديان نحو تنقية الضمائر من الضغائن تجاه معتنقي الديانات الأخرى[4].

ومنها أيضا كتاب “صلة الإسلام بإصلاح المسيحية” لأمين الخولي، وهو بحث ألقيت خلاصته في مؤتمر الأديان العالمي المنعقد ببروكسيل عام 1935 م، وفيه يحاول الخولي البرهنة على أن حركة الإصلاح الديني في أوروبا قد استلهمت المبادئ الإسلامية في مسئلتين أساسيتين: الأولى رفض السلطة الكنسية للبابا والمجامع وهذه السلطة تشمل الاعتراف، أي اعتراف المذنب بذنبه لرجل الكنيسة حتى يمحى ذنبه، والغفران أي بيع صكوك الغفران للمذنبين، والثانية إمكانية النجاة بتنقية العقيدة من الشوائب دون حاجة إلى وساطة الكنيسة بين البشر والله[5].

علاقة الإسلام بالديانات التوحيدية

وهناك عدد قليل من الدراسات أفلح في الجمع بين المنحيين السابقين كبحث “موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها” للدكتور عبد الله دراز، وهو يدرس علاقة الإسلام بالديانات التوحيدية السابقة عليه استنادا إلى الأصول التأسيسية الإسلامية مع التركيز بوجه خاص على القرآن الكريم دون العروج على أي مصادر وسيطة، وهي العلاقة التي تتوزع على مرحلتين:

المرحلة الأولى؛ قبيل امتداد يد التغيير إلى هذه الديانات، ويرشدنا القرآن أن “التصديق” هو الوصف الأمثل لها فكل رسول يُرسل قد جاء مصدقا لما قبله “وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة” المائدة: 46، وهذا التصديق كما يذهب دراز على ضربين: تصديق للقديم مع الإذن ببقائه واستمراره، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظرفيته التاريخية، وهو تأويل المعنى القرآني للنسخ الذي ينبغي أن يفهم أنه ليس نقضا من المتأخر للمتقدم وإنكارا لحكمة أحكامه وإنما وقوف بها عند وقتها كمثل ثلاثة أطباء أتوا متعاقبين إلى طفل في أطوار حياته فالأول قصر غذائه على اللبن والثاني سمح له ببعض الطعام والثالث بغذاء كامل[6].

والمرحلة الثانية؛ بعيد أن طالتها عوامل التغير والتبديل، ويضع لها القرآن شعارا مناسبا هو “الهيمنة” وتعني الحراسة الأمينة على ما جاء في الكتب السماوية السابقة، وهي تقتضي ألا يكتفي الإسلام بحراسة ما فيها من حق وخير بل فوق ذلك عليه أن يحميها من الدخيل ويبرز ما أُخفي فيها من الحقائق.

ويتفرع عن هذا بضع مسائل عملية تتعلق بموقف الإسلام من الشرائع الأخرى، فهل يكتفي الإسلام بموقف الساكت عنها أم يقف منها موقف المناهض، وكلاهما ليس صائبا كما يعتقد دراز لأن الإسلام دين دعوة وليس دينا سلبيا لكنه لا يستطيع فرض نفسه كدين عالمي وحيد مخالفا بذلك الحقيقة الإلهية “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة” هود:18، وإيمانا بذلك ينظم هذا الاختلاف عبر تشريعاته المتعددة التي تسمح بحماية عقائد أتباع الشرائع المختلفة ويدعو إلى الجنوح للسلم تحقيقا للتعايش الإيجابي فيما بينهم.


 

[1] محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، القاهرة: دار القلم للنشر والتوزيع، 2007، ص 44.

[2] نفس المرجع السابق، ص 18.

[3] مصطفى عبد الرازق، الدين والوحي والإسلام، تقديم عبد الناصر حسن محمد، القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2009.

[4] محمد مصطفى المراغي، رسالة لمؤتمر الأديان العالمي في موضوع الزمالة الإنسانية، القاهرة: مطبعة الرغائب، 1936، ص 4-12.

[5] أمين الخولي، صلة الإسلام بإصلاح المسيحية، القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1993، ص11-12.

[6] محمد عبد الله دراز، المرجع السابق، ص240.