لعل القارة التي تتجلى فيها الآية الربانية في اختلاف الألسن وتعدد اللغات هي القارة الإفريقية، حيث نجد أكثر من 1500 لغة تقريبا في تلك القارة البكر، ويبدو أن الإنسان الإفريقي لم يعط هذا الوعاء الثقافي الكبير ما يستحق من خدمة واهتمام. وباستثناء حالات نادرة جدا، فإن هذا الإنسان لم يعتن بهذه اللغات كتابة، لا قبل الاستعمار ولا بعده، لكن في الآونة الأخيرة اخترع العبقري الغيني كانتي سليمان حرف (انكو) التي يمكن كتابة لهجات لغة (ماندينغ) به، وغيرها من الكتابات والأحرف التي اخترعت حديثا.
ولئن كان هذا الإنسان في غرب القارة وشمالها وشرقها قد تبنى الحروف العربية بعد الإسلام طواعية، فإنه قد تبني لغة المستعمر بعد الاستعمار مكرها في البداية ومختارا فارشا لها ذراعيه في النهاية.
وليس الغريب هو تبني هذه الشعوب لغة المستعمر وجعلها لغة العلم والدراسة والإعلام والسياسة والدبلوماسية، بل حتى لغة الفن لدى كثير من الشرائح وخاصة الفنانين الجدد فحسب، لكن الغريب أن قادتها وسياسييها ومفكريها أزاحوا اللغات المحلية عن الساحة، واعتبروها لغات التخلف والرجعية، وأنها لا تنتمي إلا للعصر البدوي الظلامي.
وقد ترامى إلى أذهان هؤلاء القوم أن العلم والإبداع والعقلانية والفلسفة أسماء مرادفاتها الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية، فمن تحدث إحدى هذه اللغات وخاصة الفرنسية والإنجليزية فهو العالم المبدع العقلاني الفيلسوف، ومن تحدث بغيرها من اللغات المحلية فهو البليد الساذج المتخلف.
ولم يكتف القوم بذلك بل انضموا وسجلوا أسماءهم رسميا لدى الجحافل والمحافل التي تكرس لهذا الواقع، فانضموا إلى المنظمتين اللتين توطدان أركان هاتين اللغتين وتقويان دعائمهما، وهما المنظمة الفرنكفونية ومنظمة كومنوليث، وقد أسسهما كبراؤهم وأسيادهم، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى إنشاء وزارة خاصة تسمى (وزارة الفرنكفونية)، وذلك للترويج للغة المستعمر وثقافته، في الوقت الذي لا توجد في هذه الدول أقسام ولا مجالس ولا مراكز وطنية للترويج للغات المحلية ودعمها، فضلا عن أن توجد فيها وزارة تراعي هذه اللغات وتحميها.
لقد أشارت تقارير دولية إلى القلق المتزايد نحو انقراض بعض اللغات، ففي تقرير لليونيسكو، أشارت المنظمة الدولية إلى أن من بين أصل 6.000 لغة متداولة في العالم، انقرضت نحو200 لغة على مدى الأجيال الثلاثة الأخيرة، في حين تعتبر 573 لغة أخرى لغات محتضرة، و502 لغة من لغات معرضة للخطر الشديد، و632 لغة أخرى لغات معرضة للخطر، و607 لغة من اللغات الهشّة.
ولا يظننّ أحد أن لغاتنا الإفريقية بعيدة عن هذا التهديد، بل إن هذه اللغات يتقلّص نفوذها وتنكمش أدوراها يوما بعد يوم، ودعوني أوضح لكم كيف يتجسد هذا التهديد بعد خمسين سنة من الآن؟
في أغلب الدول الإفريقية يتراوح معدل التعليم بين 30-60% وقد أصبح جل من يدرس الفرنسية إلى المرحلة الثانوية ويتخرج من الجامعات يتداول هذه اللغة مع زملائه، و40% من الألفاظ والعبارات التي يستخدمها أثناء حديثه حتى في لغته الأم هي مصطلحات وألفاظ فرنسية، فتصور اليوم الذي سيصبح حال المسجلين عندنا في المدارس 95% كما هو الحال في كثير من الدول المتقدمة وشبه المتقدمة، ويصبح هؤلاء جميعا متقنين للفرنسية أو الانجليزية أو العربية، ولا يتقنون سواها من اللغات المحلية كتابة، وقد صورت لهم الحكومات أن لغاتنا المحلية متخلفة، وظلت الصحف والإعلام والدساتير والقرارات والمستندات كلها مكتوبة بهاتين اللغتين، فماذا ترى يا تُرى، فهل يلوح في الأفق مستقبل للغاتنا المحلية في تلك العقود القادمة في ظل هذا السيناريو الراهن؟ يجيب على هذا السؤال تقرير المنظمة الفرنكفونية نفسها عندما قالت: “بحلول عام 2050 سيكون عدد الناطقين بالفرنسية 715 مليون شخص، 80% من هؤلاء سيكونون في إفريقيا”[1] تصور إذا كان 80% من الناطقين بالفرنسية في إفريقيا فماذا بقي للغاتنا المحلية!
الحل المطروح
إن أكبر مستند لكثير من حكومات الدول الإفريقية في رضوخها للفرنسية والإنجليزية وتسليم زمام الأمر لهما في التعليم والإدارة تكمن في عدم وجود حرف إفريقي موحد جامع لكل القبائل والشعوب في القارة أو حتى داخل الدولة الواحدة، إضافة إلى أن تبني حرف أو لغة قبيلة واحدة في هذه الدول يؤدي إلى إثارة النزعات والصراعات القبلية والعرقية، وأخيرا يستندون إلى أن هذه اللغات تخلفت عن الركب، فهي لا تصلح اليوم للتحدث عن العلم والتكنلوجيا الحديثة وغيرها.
ونظرا إلى هذه الدعاوى، فإننا نطرح هنا حلا مرنا مناسبا يتماشى مع التعدد المجتمعي والعرقي، ولا يتصادم مع الأمن القومي والنسيج الوطني.
فأولا: نحن لا نطالب هذه الحكومات بإزاحة الفرنسية والإنجليزية من مؤسسات التعليم، ولا نطالب بإلغائها كلغات رسمية على الأقل في هذه المرحلة، فكل ما نطالب به هذه الحكومات هو التعامل مع اللغات المحلية كلغات مهمة لهذه الشعوب، وأن تصبح على قدم المساواة مع لغات المستعمر في أروقة التعليم ومقاعد الدراسة، فيتعلمها الطالب من الصغر إلى المراحل الجامعية، ويدرس بها تاريخنا وثقافتنا وفنوننا، وكثير من المواد التربوية والتاريخية وغيرها. هذا كل ما نطالب به في هذه المرحلة.
ثانيا: من الذي قال إن جميع الدول الأوروبية نفسها، ودول شرق آسيا ألغت لغتها المحلية خوفا من الصراع العرقي والطبقي أو حفاظا على الوحدة والنسيج الوطني، ففي سويسرا مثلا توجد ثلاث لغات، حيث يتحدث 63.7% بالألمانية، ونحو 19% بالفرنسية 7.6% بالإيطالية، وهذه اللغات الثلاث كلها في سويسرا تعتبر لغات رسمية، تتوفر فيها المدارس والجامعات والمراكز البحثية والصحف والمجلات، ويصدر الدستور والقرارات وغيرها بهذه اللغات جميعها. وكذلك توجد في هولندا لغتان رسميتان، اللغة الهولندية، واللغة الفرنسية، وكلتاهما رسميتان. كما أن في إسبانيا يتحدث 74% بالإسبانية الكاستيلية، و17% بكاتالان وغيرهما، وتعتبر الأولى اللغة الرسمية للدولة، بينما تعتبر اللغات الأخرى رسمية في المناطق التي تسيطر فيها. أما في بلجيكا فنجد أن اللغة الهولندية هي اللغة الغالبة في بعض مناطقها، حيث يتحدث بها 60% من الشعب، والفرنسية 40% والألمانية 1% ولم يحدد الدستور لغة رسمية لبلجيكا، بما يعني أن هذه اللغات الثلاث كلها لغة رسمية، وتترجم الدساتير والقرارات بها، ونجد اللوائح واللافتات في العاصمة مكتوبة باللغتين الهولندية والفرنسية، وكل هذه اللغات لها مدارسها ومراكزها وصحفها، وكذلك في لوكسمبورغ نجد أن اللغة المتداولة بين الناس هي لغة لكسمبورغية، مع أن الفرنسية والألمانية هما لغتا الإدارة، يعني ليست الفرنسية لوحدها، بل تعتبر الألمانية أيضا لغة الإدارة كذلك. إذن التعددية اللغوية موجودة في دول كثيرة، وهذه الدول تخدم هذه اللغات وتحترم ناطقيها.
ثالثا: ولتفادي التصادم العرقي فإننا نطرح أن تدرس اللغة المحلية بناء على المنطقة التي تنتشر فيها هذه اللغة، فعلى سبيل المثال، في غينيا عندنا أربع مناطق، وفي بعض المناطق تسيطر بعض اللغات، فمثلا في غينيا العليا تسيطر لغة (مانديغ) وفي غينيا الوسطى لغة (فلاتة) وغينيا السفلى لغة (سوسو) فنحن نطالب أن تدرس اللغة التي تسيطر على إحدى هذه المناطق إجباريا في تلك المنطقة بجانب الفرنسية والإنجليزية، وتدرس فيها اللغات المحلية الأخرى اختياريا، وهكذا دواليك، وبهذه الطريقة نتجنب العنصرية والقبلية، ونخدم لغاتنا المحلية جميعها[2].
رابعا: ولوجود حساسية كبيرة بين القبائل فلا يكون هناك قرار إجباري على تبني حرف واحد للكتابة، كل أصحاب اللغات أحرار بأن يكتبوا بالحرف الذي يروق لهم، فإذا كانت بعض اللغات في الدولة قد اخترعت حروفا خاصة بها، تكتب بتلك الحروف، أما اللغات التي لم يخترع أهلها حروفا خاصة بلغتهم فلهم حرية الاختيار، إما يخترعوا حروفا خاصة بلغتهم، أو يختاروا حرف اللغة المحلية الأخرى، أو يختاروا بين الحرف العربي والحرف اللاتيني، وليس بعائق أبدا أن تتبنى بعض القبائل الحروف العربية أو الحروف اللاتينية، فهذه ماليزيا واندونيسيا وغيرهما من الدول تبنت بعض الشعوب فيها الحرف اللاتيني، ولم يعقهم عن تطوير لغتهم ودراستها في المدارس والجامعات، وكتابة الدساتير والقرارات وطباعة ملايين الكتب بها.
خامسا: أما دعوى عجز هذه اللغات عن مواكبة التكنولوجيا الحديثة ولغة العلم، فهي دعوى فارغة تفتقر إلى الأسس العلمية الصحيحة، فهذه لغة (انكو) استطاع أهلها التعبير عن أكثر الاكتشافات العلمية الحديثة بلغتهم، ومثل هذه الدعاوى باطلة ما دمنا لم نوفر الفرصة لهذه اللغة ثم نرى عجزها عن مواكبة العصر، على أن أمرا آخر يجب أن يكون واضحا، وهو أنه ليس بالضرورة التعبير عن الاكتشافات العلمية الحديثة كلها باللغات الأخرى، بل إن لغة المكتشف هي التي تفرض نفسها أحيانا في إطلاق المسميات، فهذا (انترنت، التلفون) وغيرها يعبر العالم كله عنهما بهذا اللفظ، فالفرنسي والألماني والاسباني كلهم يقولون (انترنت) ولم يعتبر ذلك عيبا في الفرنسية ولا الاسبانية. إذن فدعوى عجز لغاتنا عن مواكبة العصر دعوى فارغة مفتقرة إلى الإثبات.
وختاما: إن من الواضح أننا نسهم في تخلفنا وتكريس الجهل في مجتمعاتنا بتخلينا عن لغاتنا، واعتبارها لغات التخلف والرجعية، وقد تبين لنا بالأدلة الواضحة أن بالإمكان تدريس هذه اللغات إجباريا في مدارسنا وجامعاتنا بجانب اللغات العالمية المختلفة، وكل لغة تدرس في مناطق نفوذها وبالحروف التي يختارها أهلها، ولم يبق إلا دور المثقفين والمفكرين والمهتمين والإعلاميين والنقابيين وجماعات الضغط المختلفة لنشر الوعي وحمل الحكومات على تبني هذا المنظور في القريب العاجل.
[1] https://www.diplomatie.gouv.fr/fr/politique-etrangere-de-la-france/francophonie-et-langue-francaise/les-actions-pour-la-promotion-du-francais-dans-le-monde/article/les-actions-pour-la-promotion-du-francais-en-afrique
[2]http://www.nationsonline.org/oneworld/european_languages.htm