في عالم الأزمات – أو زمن الفتن – كما يحلو للبعض أن يسميه تبدأ المناقشات وتتضارب المسارات وتتعدد الرؤى ويقدم كل طرف ما لديه من أدلة ويسلك عدة سبل للإقناع  لكنه يفاجئ بأن الطرف الآخر لم يتزحزح قيد أنملة عن آرائه ، فهل العيب في أطراف الحوار أم في طرقه أم في موضوعه؟ وهل علينا إذا وصل الحوار إلى طريق مسدود أن يصاب المحاور بخيبة أمل وينزوي على نفسه معتقدا أن لافائدة ترجى من أناس صم بكم عمي فهم لا يرجعون؟

ولنا أن نتسائل هل الغرض من كل حوار أن ينتقل أحد المحاورين من أحد ضفتي النهر إلى الضفة المقابلة و يترك قناعاته بعد حوار يطول أو يقصر؟ أم يكفي المحاور أن يفتح نافذة ولو صغيرة يسري منها نور الحق إلى قلوب وعقول طالما حجب عنها وحجبت عنه؟ وبعد ذلك تتحمل مسؤليتها في أخذ خطواتها الأولى إلى التفكير الصحيح الذي يقود إلى الصراط المستقيم.

لقد أوجب الله تعالى على أهل الحق أن يبينوه للناس ولا يكتمونه وأوجب على رسوله البلاغ المبين وبعد ذلك من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. أوجب الله تعالى على رسله ومن تبعهم بإحسان أن يبينوا للناس الخير من الشر وفي البشر من أغمض عينيه وأغلق أذنيه وجعل بين قلبه وبين الحق حواجز.

وحتى نتمكن من فهم الطبيعة النفسية لهذا الصنف من البشر ينبغي أن نعلم أن بعض الناس يعتقد أن رأيه جزء منه فعندما يتعرض رأيه لنقد يرى أن هذا هجوم على وجوده وكرامته ومن ثم فهو يستميت في الدفاع عما يرى، ويعتبر بنو إسرائيل من أوضح النماذج على طبيعة الإنسان الذي يستمسك بما ورثه من آراء وأفكار  لا تحوّله المعجزات ولا الأدلة والبراهين.

ومع هذه الطبيعة النفسية الصلبة المغلقة إلا أن الله تعالى أرسل لهم رسلا كُثُر لا نعلم عددهم كما منّ عليهم بلحظات أدركوا فيها الحق ومنهم من واصل السير نحوه ومنهم من ارتد على عقبه خاسرا.

ويسجل القرآن الكريم لحظة فارقة في مسار قوم إبراهيم عليه السلام تدل على أن الطرق المسدودة قد تفتح في ساعة من ليل أو نهار وذلك عندما رأوا آلاهتهم المزعومة  محطمة أمامهم فقالوا  {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) } [الأنبياء: 59 – 66]

رجعوا إلى أنفسهم بعد أن قال لهم إبراهيم عليه السلام { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } لقد حملتهم إجابة إبراهيم عليه السلام على مراجعة مواقفهم والرجوع إلى أنفسهم { فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ } وأثمرت هذه المراجعة إقرارا بالحق. إن الطريق المغلق إلى الحق قد فتحته كلمات الخليل عليه السلام { فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } صحيح أن هذا الإقرار لم يدم ولم يواصلوا السعي نحو النور وهو ما عبر الله تعالى عنه بقوله  { ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ } لكن الكلمات التي خاطبت الفطرة أعادتهم إلى صوابهم مرة ثانية وهذه مهمة حملة مشاعل الهداية.

ولعل إغلاق القلوب يكون لعدة أسباب منها :

غلبة الأوهام ، وغياب العلم ، وفقدان التزكية التي تستل الأخلاق الذميمة وإزالة هذه الحواجز عن طريق الإقناع يحتاج إلى صبر ومصابرة وهمة عالية ترافق الرحمة بمن فقد البصر والبصيرة تريد أن تأخذ بيده وتنادي عليه بصدق وإخلاص إلى الهدى ائتنا وتكرر النداء (اركب معنا) .

ونريد أن نقرر جملة من المبادئ لفتح الطريق إلى القلوب :

أولها : حق كل إنسان مهما بلغ عناده واستمساكه بالباطل في سماع الحق وبعدها فليكمل  سماعه أو ينصرف ويقبل أو يعرض قال الله تعالى في بيان وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) والألد هو الشديد الخصومة ومع حالتهم  هذه أرسل الله تعالى له رسلا يخوفونهم من العقاب الإلهي.

ولعل من ألد البشر وأكثرهم تطاولا فرعون الذي ادعى الألوهية ومع هذا الكفر الذي قل نظيره في البشرية أرسل الله موسى عليه السلام وذكر خبره فقال سبحانه {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 15 – 19]

ثانيا : اختيار الألفاظ هناك من يصف محدثه بأشنع الأوصاف من الكفر والفسوق والعصيان أو البلاهة والجهل أو الخيانة والعمالة ثم يتعجب لماذا لم يقتنع بما يقدمه له؟ لماذا لم يستجب للحق؟ ويتجاهل أنه أساء لمحاوره وأن هذه الإساءة قد نقلت الحوار إلى فضاء آخر هو رد هذا التعدي بأشد منه فضلا عن أن هذه الأوصاف الذميمة تضع الحواجز بين قلبين وعقلين  وتغلق الطرق المفتوحة أما طريقة القرآن الكريم وهو ينادي أعتى البشر” يا بني إسرائيل” “يا أهل الكتاب” وفي هذه الأوصاف من التذكير ببنوتهم لنبي كريم من أنبياء الله تعالى وكونهم أصحاب كتاب سماوي في الأصل – قبل أن تمتد إليه يد التحريف – حث على اتصال الفرع بالأصل ومواصلة السير في دروب أهل الصلاح.

وإذا لم يكن من تخاطبه من بني إسرائيل ولا من أهل الكتاب فهو من أبناء آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلا.

ثالثا : لا تغلق الأبواب اترك الباب مفتوحا في نهاية كل حوار عسى أن يعود من تحاوره إلى رشده فيعود إليك دون خجل أو شعور بالهزيمة وفي ترك الأبواب مشرعة يأتي قول الله تعالى: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} توعد الله تعالى من كفر بعد إيمانه وبعد أن تبين له الهدى من الردى بلعنة من الله ومن خلقه سبحانه وبخلود في عذاب الجحيم لكن رحمة ربنا سبقت غضبه فاستثنى سبحانه من هذه الطائفة التي ارتكبت هذا المنكر الفظيع من عاد إلى الله وأصلح ما فسد من عمله  وبشره بأن مغفرة الله ورحمته في انتظاره هذه النافذة التي يمر منها نور البشرى لمن أفاق من غفلته تحيي الكثيرين وتردهم إلى الصواب.

رابعا : إن البحث عن مخارج من هذا الطريق المسدود – مهما بلغت سماكتها والحواجز التي يضعها شياطين الإنس والجن – هو دأب الصالحين في كل ملة وعصر  {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164] فالسبب الأول لدعوة هؤلاء الهلكى هو الإعذار إلى الله والثاني رجاء أن تنفتح قلوبهم للخير والحق فيعودوا عن غيهم.

خامسا : الصبر الجميل الذي يتحلى به طبيب القلوب في تقديم الدواء بجرعاته المتعددة وفي مواعيده المنتظمة مع ملاحظة أثر كل  دواء على روح المريض وأيها أنفع.

سادسا : وإذا انسدت أمام أهل الحق كل الطرق وبذلوا  ما في وسعهم لإزالة الحواجز بين القلوب وبين نور الله فيكفيهم شرف أداء خير الأعمال عند الله وهي تعريف الناس بالحق الذي قامت به السموات والأرض ويبقى في الناس من يحب الخير ويدعو له ومن يحب الشر ويحرض عليه  وتبقى الدعوة إلى الحق باقية ما بقيت السماء والأرض.