من المهم جدًّا أن نتعامل مع أحداث الإسلام ووقائعه، لاسيما التي شكَّلت مفاصلَ كبرى في مساره، باعتبارها ذات إشعاعٍ دائم ومقدرةٍ متسمرة على النفاذ إلى مختلف الأزمان والأجيال؛ لتهديها للتي هي أقوم، ولتضيء لها- بما تَبثُّه من دروس وعبر- خطواتها وحركتها.

وذلك لن يكون إذا تعاملنا مع هذه الأحداث والوقائع على أنها جزء من الماضي الذي انتهي، وإنما يكون حين نَعدُّها جزءًا من الحاضر المتصل، بل والمستقبل الذي يتشكَّل..!

وحادثة “الإسراء والمعراج” هي من هذا النوع الذي بإمكانه أن يمد أشعته النافذة إلى حاضرنا، وإلى مستقبلنا.. أو هكذا يجب أن نتعامل معها، كلما استقبلنا ذكراها العطرة كل عام.. لا أن تتحول إلى مناسبة لاجتراء قصصها الغرائبية، أو نتعامل معها بنوع من العاطفة المنبهرة بها وبما ناله النبيُّ صلى الله عليه وسلم من تكريم؛ دون تفحُّصِها واستنطاقها بالعبرة والموعظة فيما يواجهنا من عقبات وتحديات.

الإسراء والمعراج لم تكن مجرد حادثة عابرة في تاريخ الإسلام، بل هي حادثة مفصلية بحيث يصح أن نؤرخ بها لما قبلها وما بعدها.. حتى فُتِن بسببها بعض من دخلوا في الإسلام، فضلاً عن موقف الكفار الذي اتسم بالتكذيب والإنكار، وهو موقف غير مستغرب منهم!

ولهذا نقل ابن كثير في تفسيره عند قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) عن ابن عباس أنه قال: “هي رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رسولُ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسرِيَ بِهِ”. أي المشاهد التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في الرحلة، والتي كانت عيانًا لا منامًا.

وبيَّن ابن كثير أن ناسًا رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنهم لم تحتمل قلوبهم وعقولهم ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج؛ فكذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتًا ويقينًا لآخرين؛ ولهذا قال: {إِلَّا فِتْنَةً}؛ أي اختبارًا وامتحانًا.

كما لم تكن الإسراء والمعراج مجرد رحلة أريد بها تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والتسرية عنه، بدلاً من الحزن الذي أصابه بموت سندَيْه الكبيرين: عمه أبي طالب، وزوجه السيدة خديجة رضي الله عنها.. نعم، كان هذا أمرًا مقصودًا، وأمرًا مهمًّا؛ فلئن ضاقت الأرض وضاق المفسدون من أهلها بنبي الله الخاتم، وصفوته من خلقه؛ فإن رب السماوات والأرض والملأ الأعلى والملائكة الأطهار مرحِّبون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفون له قدره ومكانته.. وكفى بهذا تكريمًا وتسرية عنه صلى الله عليه وسلم من عناء الدعوة، وعنت الكافرين.

لكن هذا التكريم- وهذه نقطة مهمة- جاء مصحوبًا بنوع عظيم من المسئولية، وهي مسئولية مشتقة من كون رسالته صلى الله عليه وسلم الرسالة الخاتمة.. إنها مسئولية الشهود والشهادة على الأمم، ومسئولية الائتمان على الوحي الخاتم وعلى الرسالة الأخيرة للبشرية.. بما يقتضيه ذلك من دوام انتباه الأمة لِمَا أُوكل إليها من مهمة عظيمة الشأن والخطر، وما يقتضيه أيضًا من العمل الجاد لإيصال كلمة الله إلى الناس جميعًا على النحو الذي يريده الله، ويحقق وصول الرسالة إلى المخاطَبين بها من غير تشويه ولا تحريف..

وقد تجلَّى هذا التكريم المصحوب بالمسئولية حينما جُمع الأنبياء للنبي صلى الله عليه وسلم ليصلِّي بهم إمامًا، في بيت المقدس، ليلة أُسري به.. وهذا المعنى ينسحب على أمة النبي صلى الله عليه وسلم من بعده؛ فهم أيضا مكرَّمون تكريمًا مصحوبًا بالمسئولية، ولا ينبغي أن ينفصل الأمران عن بعضهما البعض: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمرا: 110).

ويوم أن انفصل التكريم عن المسئولية في الوعي الإسلامي، انقلب حال المسلمين إلى نوع من المباهاة والمفاخرة رغم أنهم فقدوا كثيرًا من حيثيات التكريم والتشريف! كما ينقلب التوكل إلى اتكال، وحسن الظن إلى كسل وبلادة..!

بجانب ذلك، فإن رحلة الإسراء والمعراج تعلمنا مدَّ البصر خارج حدود المكان الخانقة، وخارج حدود الزمان الضيقة.. فالنبي صلى الله عليه وسلم المحاصَر بمكة إذ هو يُذهَب به إلى بيت المقدس، ومتجاوِزًا حُجُب الدنيا إلى الزمان الأبدي.. حتى تُعاد الحركةُ في المكان والزمان الدنيويين طبقًا لهذا المدِّ الاستثنائي.. فتنفتح آمال، وتتسع آفاق، وتترشد خطوات..

حينما يُطْلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على مشاهدَ من يوم القيامة، بما فيها من ثواب للمؤمنين وعقاب للعاصين؛ فإن ذلك كان لتترشَّد حركة الناس في الدنيا؛ التي هي دارُ عمل لا حساب، وزمنٌ عابر في حياة الناس لا دار خلود.. وليتداركوا عاقبة أعمالهم قبل أن يفوت التدارك..

وحينما يكون المعراج من بيت المقدس بأرض الشام، بمفهومها الواسع، لا من الكعبة بمكة المكرمة؛ فإن في ذلك إشارةً إلى مدِّ البصر خارج حدود مكة التي ضيَّقها أهلها على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبِه الكرام..

فلم تكن رسالة الإسلام محصورة في مكان ما، مهما بلغ من الشرف.. وإن الهجرة هي سبيل المؤمنين حينما يُمنعوا من أداء مهمتهم ورسالتهم.. ولا يجوز التقوقع في مكان لا يُسمح فيه بحرية الدعوة والبلاغ، إلا لمن يعجز عن الهجرة، من المستضعَفين: {فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (النساء: 99).

ولنا أن نتخيل مدى الفاعلية التي يمكن أن يكتسبها المسلم إنْ هو تجاوز حدود الزمان والمكان الضاغطة، ولم يستسلم لها، ولم يذعن لمثبِّطاتها.. فانطلق يبحث عن آفاق رحبة وأوسع، واستشرف زمانًا آتيًا واستعد له بما يناسبه.

أما الذين يستسلمون لضغط اللحظة الراهنة، أو للمكان المحدود، أو لم يتأهلوا جيدًا للتعامل مع الخطط المستقبلية: على مدىً زمني أكثر اتساعًا، وعلى مدىً مكاني أكبر دائرةً.. فإنهم سيكونون عاجزين ليس فقط عن التعامل مع ما يستجد من مشكلات، بل حتى عن التعامل مع مشكلات الواقع الملموس..!

إن رحلة الإسراء والمعراج مليئة بما يمكن أن يضيء للعقل المسلم مساحات جديدة من الوعي والفهم والتبصُّر.. وكذلك كلُّ حوادث الإسلام المفصلية في تاريخه!

وقد آن للأمة أن يكون لها إسراؤها ومعراجها الذي يُحلِّق بها في آفاق من الوعي والسعي، ويزيل عنها حالة الجمود والانهزام النفسي، وينقلها باستشرافٍ عميق خارج ضغوط المكان والزمان، ويُبصِّرها بما يجب فعله وما يجب تركه، وما هو أولوي حالّ، وما هو ثانوي يُتسَامح فيه..!

وهذا الإسراء والمعراج للأمة هو عمل دائم متصل، لا ينقطع؛ لأنها أمة الرسالة الخاتمة، ولأنها الأمة الشاهدة على ما سبقها من أمم.