يعود النقاش حول “الحرية” و”الحرية الدينية” خاصةً إلى مشارف الأزمنة الحديثة مع شيوع قيم الحداثة التي تقوم – في جوهرها – على الفردانية والحريات، وهي الأفكار التي تَحَوَّلت فيما بعد إلى قيم إنسانية عامة، فأفرزت في المجال الإسلامي العديد من التساؤلات والإشكالات التي صارت تُطرح على النص الديني والفقه الإسلامي، وقد برزت آثار ذلك في علمين رئيسين: الأول: تفسير القرآن وتحديدًا في شرح آيات الحرية والتعرض لما يعترضها من إشكالات، كما نجد بداية مع تفسير “المنار” لرشيد رضا ومحمد عبده، والثاني: الفقه الإسلامي وما أثارته بعض أحكامه من تناقض مع مبدأ الحرية، وأبرزها قضايا الجهاد والجزية والذمة وحكم المرتد.

لم يَعرف التراث الفقهي – تحديدًا – “الحرية” بالمفهوم الفلسفي الحديث في تشعباته المدنية والسياسية والاجتماعية وغيرها والتي تقوم أساسًا على الفردية، ولكننا نجد في التراث الإسلامي الواسع أبعادًا متعددة للحرية:

أ‌. فالحرية تُستعمل في الفقه في مقابل العبودية/الرق وهو المعنى الغالب على استعمال الفقهاء، ونجده في العديد من أبواب ومباحث الفقه، ولكنه يدلّ أيضًا على الأهلية في التصرفات، وهو في الجملة يدور على معنى “خُلوص حُكمِيّ يظهر في الآدمي؛ لانقطاع حق الغير عنه”، و”هي أن يكون تصرّف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرّفاً غير متوقّف على رضا أحد آخر”.

ب‌. وتُستعمل في علم الكلام في مقابل الجَبْر ضمن ثنائية الجبر والاختيار وفعلِ العبد وفعلِ الله سبحانه وتعالى، وإن كان لفظ الحرية غير متداول في كتب هذا الفن.

ت‌. وتُستعمل الحرية في علم التصوف أيضًا، فبعض المتصوفة أفردَ بابًا سماه “باب الحرية”، كما فعل الإمام القُشَيري (465 هـ)، ومن مصادره ونقولاته يتبين أن المفهوم شائعٌ عند أهل السلوك، ويدور على معنى التحرر من سلطان المخلوقات عبر التحقق بعبودية الله وحده، يقول: “الذي أشار إليه القومُ من الحرية هو أن لا يكون العبد بقلبه تحت رِق شَيْء من المخلوقات، لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة، فيكون فردَ الفرد، لَمْ يَستَرِقَّه عاجلُ دنيا، ولا حاصلُ هوى، ولا آجلُ مُنى، ولا سؤالٌ، ولا قَصْدٌ، ولا أَرَبٌ، ولا حَظٌّ”.

بل ثمة توجهٌ هامشيٌّ في التصوف يرى أن العبد قد يخرج “عن رِقِّ العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية”، وهو توجهٌ لقي إدانةً شديدةً فوُصف بالإلحاد والكفر أو ذهاب العقل.

ث‌. كما أن الحرية تُستعمل في كتب الأخلاق على أنها فضيلة للنفس وهي من الفضائل التي تندرج تحت خلُق العِفّة، فالحرية فضيلةٌ تُطلَق على فعل المحاسن، وعلى الاكتساب من أوجه الحلال، كما نجد عند مَسْكويه والراغب الأصفهاني. يقول مسكويه: “وأما الحرية فهي فضيلة للنفس، بها يُكتَسب المال من وجهه، ويُعطَى في وجهه، وتَمنع من اكتسابه من غير وجهه”، ويقول الراغب: إن الحرية مثل الكرم “اسم لجميع الأخلاق والأفعال المحمودة إذا ظهرت بالفعل”، لكن تقال الحرية “فيمن لا تستعبده المطامع والأغراض الدنيوية”، وقد ذكر في موضع آخر أن الإنفاق المحمود، منه ما يُكسب صاحبَه الحرية وهو “بَذْلُ ما نَدَبت الشريعة إلى بذله”.

ج‌. وتستعمل العرب لفظ الحرّ بمعنى النبيل أو الشريف أي الذي يتصرف تصرفًا حرًّا مستقلاً، وقد يستعمل العرب اللفظ بمعنى العفة على المعنى العرفيّ الشائع عندهم، ولذلك جاء في لفظ زوجة أبي سفيان: “أَوَتزني الحرة؟!”، وبنى الفقهاء على هذا في مفهوم “الإحصان” حتى قال ابن تيمية: “أقل ما في الإحصان العفةُ، وإذا اشتُرط فيه الحريةُ فذاك تكميلٌ للعفة والإحصان”، وقال في موضع آخر: “وصار لفظ الإحصان يتناول الحرية مع العفة”.

وقد اكتسب لفظ الحرية حَمولة دلالية فلسفيّة بتأثير الترجمة والفكر الحديث، ويبدو أن العرب لم تستعمل اللفظ خارج معنيين أو أصلين – بتعبير ابن فارس – الأول: ما خالف العبودية وبَرِئَ من العيب والنقص، والثاني: خلاف البرد.

ومما يلفت النظر أن لفظ الحرية لا يُستعمل كذلك عند العرب في مقابل الأَسْر وشَدّ الوثاق كما قد يتبادر للذهن، وإنما يُستعمل فكّ أو فكاك الأسير لا تحرير الأسير، وهذا كلّه لا يُحيل برأيي إلى أي دلالة سلبية أو قصورٍ في الاستعمال، كما لا يدل على غياب مفهوم الحرية نفسه وأبعاده التي ظهرت فيما بعد في اصطلاحات العلوم؛ لأننا سنجد لفظًا آخر مهمًّا استعملته العرب للدلالة على مفهوم الحرية السياسية وهو “لَقَح” فقالوا: قومٌ لَقَاحٌ إذا لم يَدينوا لملكٍ ولم يَملكهم سلطان، وحين جاء ابن فارس ليضبط قانون اللغة لم يجد لهذه الدلالة أصلاً يُدرج اللفظ فيه فاعتبره من الشاذ الخارج عن الأصل الوحيد الذي يدور عليه جذر “لقح” وهو: إحبال ذكرٍ لأنثى.

وحتى لفظ “محرَّرًا” الذي يَرد في القرآن مرة واحدة على لسان أم مريم بنت عمران، (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)، لا يتم الاحتفاء به في كتب التفسير والمعاجم، فنجدهم يحملونه على معنى النذْر، وفي التفاسير المبكرة جدًّا نجد المعنى يتأرجح بين الخالص – كما نُقل عن مجاهد (104 هـ) – و”الذي لا يَعمل للدنيا ولا يتزوج، ويعمل للآخرة” كما يوضحه مقاتل بن سليمان (150هـ).

ويمكن القول بعد هذا كله: إن مفهوم الحرية في التفكير الإسلامي يكتسب مدلولين: الأول: هو التحرر من العبودية/الرق، والثاني: هو تَمَكّن الفرد من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء من دون مُعارِض. وهذا المعنى الثاني في النظر الفقهي “ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال”، وقد فصل في هذين المعنيين وتطبيقاتهما الفقهية الطاهر بن عاشور.

 

ويقوم مفهوم الحرية على ثلاثة مكوّنات أساسية هي:

1- ن العقل أساس التكليف أي الشرط الأساس لأهلية الإنسان لتَحَمل خطاب الشارع بالأمر والنهي، ولذلك نجد أن مدار الإيمان/الاعتقاد والعمل الدينيّ/الشريعة على العقل وهو عقلان: عقل الإدراك والتمييز وعقل البلوغ سنَّ الأهلية والتكليف.

2- الاختيار الحر، ولذلك يسقط التكليف عن المُكرَه سواءٌ لجهة صحة الاعتقاد أم لجهة صحة العمل، ولذلك سنجد أحكامًا عديدة تنبني على هذا الاختيار في تفاصيل علمي الكلام والفقه بشأن المُكره وإسقاط المسؤولية ورفع الإثم عنه.

3- الاستطاعة والقدرة هي شرطُ وقوع الفعل، ومن هنا قرر علماء أصول الفقه أن التكليف مَنوطٌ بما يُطاق؛ بالاستناد إلى المبدأ القرآني (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة 286].

ولو تأملنا أصول الاعتقاد وتفاصيل أحكام الشريعة سنجدها معلّقة على هذه العناصر الثلاثة، حتى إن الجهاد نفسه معلَّلٌ بالحرية ونفي الإكراه، ولذلك قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [البقرة: 193] أي أن الجهاد شُرع لمنع الفتنة عن الناس، والفتنة هنا معناها فتنة الناس عن دينهم وهو ما كان يمارسه المشركون على المؤمنين في محاولةٍ لصدّهم عن دعوة التوحيد.

بل إن بعض الفقهاء المعاصرين جعلوا الحرية مقصدًا من مقاصد الشريعة كالطاهر بن عاشور الذي أفاض في بيان سريان الحرية في كثير من الأحكام الفقهية، وأن الشريعة متشوفة إلى الحرية، وأن الحرية تثبت في أصول الناس: في معتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم، وفي النهي عن تحريم المباحات، ويقابل ذلك ما للشريعة من حقوق على أتباعِها بتقييد حرياتهم. ومَن تجاوز منهم حدود حريته أُوقف عند الحد الشرعي بضمان التفريط أو العقوبة. وقال: إن معنيي الحرية اللذَين أشرنا إليهما قبلُ كلاهما “جاء مراداً للشريعة؛ إذ كلاهما ناشئ عن الفطرة، وإذ كلاهما يتحقّق فيه معنى المساواة التي تَقَرّر أنها من مقاصد الشريعة”. وتَبِعه يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي فقالا في سياق الثورات العربية: إن الحرية ضرورة من الضرورات، أي واحدة من الضروريات التي لا تستقيم حياة الإنسان إلا بها.

لكنّ كل ضروريّ من الضروريات الخمس لا يمكن فصله عن الحرية؛ لأنه لا يتأدى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال جميعًا مع الإكراه أو العبودية، ولذلك شاع من قواعد الفقهاء قولُهم: إن الشارع متَشوِّف إلى الحرية.