من المهم ونحن نتعامل مع المعاني أو المناسبات الإسلامية، أن ننظر إليها في إطارها الذي يتجاوز دائرة الفرد إلى دائرة الأمة؛ فذلك أدعى لأن نقف على حقيقتها، وعلى المقاصد الأساسية منها. وشهر رمضان، بما فيه من معانٍ إيمانية وقيم اجتماعية ومقاصد عليا، ينبغي أن ننظر إليه على هذا النحو.. فرمضان شهر الأمة الإسلامية بالأساس، وليس مجرد شهر يحس فيه الفرد بذاته المعنوية، ويجدد حاجاته الروحية.

رمضان هو الشهر الذي وُلدت فيه الأمة.. حين تنزل القرآن بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1).. فانبثق من هذا الأمر الإلهي ميلادُ أمةٍ انداحت بعد ذلك في جنبات الأرض؛ تعمِّر الكون وتستخرج كنوزه وقوانينه المخبوءة، وتقيم العدل، وتصنع في دنيا الناس النموذج الذي طالما تاقت نفوسهم إليه.

لكن حين تاهت منا بوصلة المفاهيم والقيم والمعاني، صار رمضان- في أحسن الحالات- شهرًا للفرد وليس للأمة، وللذات وليس للمجموع.. وغاب عنا أنه شهر ميلادنا جميعًا، وشهر انطلاق نموذجنا الحضاري.. أما في أسوأ الحالات- نعوذ بالله- فصار الشهر الكريم عنوانًا على كل ما يضاد رسالته الأساسية؛ من الارتقاء بالروح، وتهذيب الغرائز، وضبط النفس والجوارح..!

عندما نقول رمضان شهر الأمة الإسلامية، لسنا نريد بقولنا هذا: إن رمضان شهر ميلاد الأمة، مجرد التعبير الأدبي عن أهمية الشهر وفضله.. بل نريد التعبير الحقيقي، من حيث لفت الانتباه إلى كيفية صناعة الأمة التي تمت في رمضان، وإلى ما يحمله هذا الشهر كل عام من تذكير متجدد بهذه الصناعة.. فنحن أمام ميلاد متجدد ينبغي أن نستحضر أجواءه ومفاهيمه ومرتكزاته.. لاسيما إذا صرنا في حالة بعيدة كثيرًا عن حالة الميلاد الأول وما اتسمت به من علو ورفعة وتمكين..!

فحينما يعادونا رمضان كل عام، ينبغي أن نتذكر معه كيف وُلدت أمتنا.. كيف كنا قبل الميلاد: من الفرقة والضعف والهوان، ومن ضياع البوصلة والانحراف في العقيدة والمفاهيم.. ثم لننظر كيف كنا بعد الميلاد: من الاتصال بالسماء والاستهداء بنور الوحي، ومن قوة الصف وتماسك النسيج، ومن السيادة في الأرض والعزة بين الأمم.. ثم علينا بعد ذلك أن نرى واقعنا المعاصر في ضوء هاتين الصورتين: قبل الميلاد وبعده؛ لندرك إلى أي صورةٍ منهما نحن أقرب! وإلى أي وضعٍ نريد أن نصير!

أليس من اللافت هنا أن يكون رمضان شهر الانتصارات والأحداث الكبرى المفصلية في تاريخنا، القديم والحديث؛ بدءًا من غزوة بدر الكبرى وحتى حرب العاشر من رمضان..؟!

وأليس من اللافت أن تأتي توجيهات الإسلام تباعًا لتؤكد ضرورة اقتران الصيام برعاية حقوق الآخرين؛ وصيانة حرماتهم المعنوية والمادية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ؛ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ” (رواه البخاري من حديث أبي هريرة)، وقوله أيضًا: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ” (رواه البخاري من حديث أبي هريرة)؟!

وأليس مما ينبغي التوقف عنده بالفهم والتدبر، ما جاء في فضل أعمال في رمضان يتعدى نَفْعُها الذات إلى الآخرين؛ مثل تفطير الصائم، وبذل الخير للناس، والجود من نعم الله.. كما في الحديث الشريف: “مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مثل أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ” (رواه أحمد والترمذي عن زيد بن خالد الجهني)، وكما في قول ابن عباس: “كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ” (رواه البخاري)؟!

إن رمضان حقًّا ليس كما يتصور البعض شهرًا للزاد الروحي فحسب، ولا لمراجعة الذات في دائرتها الفردية فقط.. بل هو شهر ميلادٍ بما تعنيه كلمة (الميلاد) من عمل روحي وفكري، ومن حركة وجهاد، ومن بذل وعطاء.. تمامًا كما أنه شهر لمراجعة الذات في دائرتها الأوسع الجماعية، وفرصة لأن تراجع الأمة واقعها في ضوء ملابسات ميلادها ومقتضياته..

نريد من رمضان أن تنتعش فيه الروح وتزكو النفس، وأن نبذل الخير ونعين المحتاجين ونُدخل السرور على من ضاق بهم الحال، وأن نعيد للمجتمع ولو بعضًا من صفائه وتماسكه: بالتراحم والتغافر، وبكف الأذى وصيانة الحقوق والأعراض..

نريد من رمضان أن نستشعر به أننا وُلدنا حقًّا أول مرة في هذا الشهر، وأن ميلادنا مجدَّدًا أمرٌ ممكن بل ومطلوب بإلحاح.. وكما يدور الزمان دورته، ويُعاودنا رمضانُ كل عام، ينبغي أن نغادر مواقع الهزيمة والتخاذل والمثبطات، إلى مواطن الريادة والفاعلية والإيجابية، نحو استئناف ميلادنا الأول..

إن رمضان شهر الأمة، ومن المهم أن يتحرك فيه كل فردٍ باتجاه هذا المعنى، وأن يستحضر مسئوليته نحو أمته كما ينتوي أن يقوم فيه بأعمال تخص الذات..