في الناس من يعيش محدوداً طوال العمر في إطار قريته، أو مدينته، أو موطنه، وفيهم من يتمدد طولاً وعرضاً، ويتسع مفهوم الوطن في ذهنه حتى يصبح الأرضَ كلها، فيصبح الإنسان الواحد أوسع أفقاً من أمم من الناس المحاصرين في حقولهم وأكواخهم، ويغدو الفرد الواحد بحراً واسعاً تصب فيه الأنهار من كل قارات الأرض.

والفارق بين حالي الإنسان الضيق والإنسان الواسع يشبه كثيراً الفارق بين ساكن الزنزانة الضيقة وساكن الغابة الواسعة، بكل ما يعنيه ذلك الفارق من اختلاف في تصور الحياة، وتنوع الخيارات، وتعدد المشاهد، ونقاء الهواء، ومقدار الحرية، ومدى القدرة على التبديل، والحصانة من الملل.

وصاحبنا هيلموت ريتّر واحد من الناس المتسعين، ولد في فرانكفورت الألمانية عام ١٨٩٢ ومات بها أيضاً عام ١٩٧١، ولكنّه بين الميلاد والوفاة عاش حياةً واسعة حلوة، منتجة مبدعة، حرةً طليقة، على نحو أتيح لقلة من الناس أن يحظوا به.

كانت أسرته أسرةً ألمانيةً متدينةً، خرجت عدداً لا بأس به من القساوسة، وكان أبوه وأخوه قسيسين بروتسانتيين، وهو ما يستدعي الملاحظة حين نشاهد بعد قليلٍ إلى أي مدىً ابتعد هيلموت ريتّر عن إطار عائلته. وقد بدأ ذلك الابتعاد عادياً، إذ تدرج ريتّر في تعليمه حتى نال الدكتوراة، وتتلمذ على عدد من كبار المستشرقين الألمان الذين كانوا واسعي الاطلاع على اللغات والثقافات الشرقية..

وكان ريتّر يدرك أن من أراد الاتساع في هذه الدنيا فلا بد له من امتلاك مفاتيحه، وتعلم اللغات واحد من أعظم مفاتيح الاتساع، إذ يتيح للمرء أن يتفاعل مع سياقات حضارية مختلفة، وأن يلج إلى أبوابٍ موصدة دون من لا يتقن سوى لغته الأم.. فتعلم اللغة العربية، لغة القرآن، والفارسية، لغة الأدب، والتركية، لغة العثمانيين الذين سيكون له معهم فيما بعد حكايات لها أول وليس لها آخر.

كانت العلاقة بين ألمانيا والدولة العثمانية جيدة، وتوّجتها زيارة القيصر الألماني ڤيلهلم الثاني إلى الأراضي العثمانية تلبية لدعوة السلطان عبدالحميد الثاني عام ١٨٩٨، شملت الزيارة إسطنبول والقدس وبغداد وبيروت، وحصل الألمان على امتياز مد خط القطار المنطلق من إسطنبول إلى بغداد، وتقديم الاستشارات الفنية لسكة حديد الحجاز المنطلقة من دمشق إلى المدينة المنورة.

ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤ تحالفت ألمانيا مع الدولة العثمانية، وبعد عامين من اندلاع الحرب أفادت ألمانيا من قدرات ريتر اللغوية بإرساله إلى العراق ليعمل مترجماً للجيش الألماني هناك..

لم تكن ظروف الحرب لتشغل ريتّر عن البحث والكتابة، فقد أنجز عدة أعمال بحثية في تلك الأيام الملتهبة، منها: “السفن العربية في الفرات ودجلة”، و”أربعون أغنية شعبية عربية”،  و”أشعار حربية عربية من العراق”، ونقلت خدماته بعد نحو عامين إلى الأناضول، فلم ينقطع على رغم عمله العسكري عن الكتابة البحثية حيث أنتج كتاباً عنوانه:”إسهام صغير في نحو اللغة التركية العثمانية وأساليبها”.

انتهت الحرب العالمية الأولى بخسارة فادحة منيت بها الدولتان: العثمانية والألمانية، إلا أن العلاقة بين الشعبين التركي والألماني لم تنقطع، إذ سافر الكثير من الأتراك للعمل في ألمانيا، وعاد ريتّر إلى ألمانيا ليعمل في البحث العلمي ذي الصلة بالاستشراق، ويدرّس في معهد هامبورغ للمستعمرات مدة سبع سنوات.

حتى إذا جاء العام ١٩٢٧، وتبدل كل شيء في تركيا، فذهبت الخلافة والسلطنة وجاءت الجمهورية، عيّن ريتّر مديراً لفرع “الجمعية الشرقية الألمانية” في إسطنبول، وهي جمعية تعنى بنشر التراث التراث العربي والتركي والفارسي.. وهنا ابتدأت مرحلة جديدة في حياة ريتّر، امتدت اثنين وعشرين عاماً قضاها في إسطنبول، أخذ ريتّر يطلع على كنوز الكتب المخبأة في مكتبات إسطنبول، حتى إنه كتب أكثر من مئتي مراجعة لمئتي كتاب يتعسر على أكثر الناس الوصول إليها.

واشتغل ريّتر بتحقيق عدد من الكتب، والإشراف على تحقيق عدد آخر، ولربما يندهش المرء حين يطالع بعض العناوين التي عمل عليها ريتّر. فمنها على سبيل المثال: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، والوافي بالوفيات للصفدي، والسوانح لأبي حامد الغزالي، وأسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني، وغير ذلك.. وأشرف على تحقيقات بلغت ١٧ مجلداً كبيراً.

وقد عمل ريتّر على ترجمة عدد من الكتب من الفارسية إلى الألمانية، وكتب الكثير من المقالات وشارك في عدد من المؤتمرات.

لما عاد ريتّر إلى ألمانيا كانت الحرب العالمية الثانية قد ألقت أوزارها، وكانت ألمانيا قد هزمت في تلك الحرب شراً من هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، واستضافت ألمانيا عدداً هائلاً من العمال الذين عملوا في إعمار ما دمرته الحرب، وشكّل الأتراك نسبةً هائلة من أولئك العمال، ولا تزال في ألمانيا حتى يومنا هذا جاليةٌ تركيةٌ كبيرة تبلغ اليوم نحواً من ثلاثة ملايين نسمة.

عاش ريتّر سنواته الأخيرة في منزل ريفي إلى جانب مدينته فرانكفورت، حتى مات في التاسعة والسبعين من عمره عام ١٩٧١ تاركاً من ورائه آثاراً جديرة بالتقدير، وأعمالاً متقنةً “صنعت في ألمانيا”!