من مسؤوليات المسلم المعاصر ، استعادة دور القرآن ومكانته في الحياة العامة للمجتمع الإسلامي، ومواجهة حالات الهجر المتعددة التي يعاني منها القرآن بين أهله، وهذه المسؤولية يتحقق القيام بها عن طريقين: الأول: الترويج لهذه الفكرة ذاتها، أي فكرة تمكين القرآن في الحياة العامة للمسلمين المعاصرين، والطريق الثاني: وهو مرتبط بالأول -ودعامة له أيضًا- ويتمثل في غرس قيمة “حق القرآن” في المنحى التربوي الإسلامي بوسائطه ومؤسساته المختلفة الأسرة، المدرسة، الإعلام، الجامعات[1]..
ونحاول في هذه المقالة أن نُعرِّف ببعض جوانب فكرة “حق القرآن“، مبينين أبعادها وأصالتها من القرآن والسنة النبوية، وعاملين على توجيه نظر المسلمين إلى هذا الحق وضرورته، والتي تبدو في ناحيتين، الأولى: تجنب الوقوع تحت طائلة شكوى النبي – ﷺ- لله عز وجل من “هجر القرآن” (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان/30] فالهجر هو الابتعاد والنأي. والثانية: استعادة القرآن منظمًا لحياة المسلم وموظفًا لطاقته الحيوية بتجديد الموقف من القرآن في الواقع الاجتماعي.
منطلقات فكرة “حق القرآن”
هل للقرآن حق؟
للقرآن حق مثل حق الرسول، وحق الصلاة، وحق الصوم، فهذه وغيرها حقوق ثابتة غير قابلة للتبديل أو التغيير، وكذلك الحق الذي نشير إليه هنا وصاحبه “القرآن العظيم” ومحل هذا الحق هو سلوك المسلم المؤدى نحو القرآن – والذي سوف نفصله لاحقا- ويقوم هذا الحق على عدة منطلقات رئيسة أهمها:
1. منطلق اعتقادي: فالإيمان بالقرآن، واجب على المسلم لا يتحقق إيمان المسلم إلا به، “والإيمان بالقرآن يعني الإيمان بكل ما جاء فيه من عقائد ومفاهيم وعبادات وشعائر، وأخلاق وآداب وتشريعات ومعاملات”[2]. وهذا الإيمان يتطلب القيام بواجبات ومسؤوليات تجاه المُعتقد فيه، وهذه الواجبات هي التي أسميناها هنا (حق القرآن).
2. منطلق فكري: وفي ضوء الإيمان/الاعتقاد السابق، فإن القرآن يمثل مرجعية فكرية بالنسبة للمسلم، يستمد منه قيمه الأساسية وتصوراته ومفاهيمه حول الخالق، والكون، والمصير، والخلق، ولا يمكن تجاوز هذه المرجعية في مجالات تفكير المسلم في القضايا الأساسية والكبرى، حيث إن تجاوزها يمثل انحرافًا فكريًا وتشوهًا في الرؤية الكلية التي يعتمد عليها سلوك المسلم ونشاطه في الكون.
3. منطلق اجتماعي: فالتركيب الذي يُحدثه (القرآن) مع الطاقة الحيوية في تنشئة الفرد المسلم، ينتج عنه بالضرورة ما يعرف بـ (المجتمع الإسلامي) الذي لا يمكنه أن يوصف بهذه الصفة (الإسلامية) دون انطباع التربية الاجتماعية لأفراده بالطابع القرآني، كما حدث في التجربة التاريخية الأولى للأمة الإسلامية.
4. منطلق تاريخي حضاري: مثل القرآن في بُعد حركته التاريخية دافعًا لحركة الحضارة الإسلامية بما طرحه من مجالات بنائية علمية وأخلاقية دفعت الإنسان المسلم لتشييد الحضارة في ثوبها الإنساني الجديد ذو الصبغة القرآنية (صِبْغَةَ اللَّهِ)، وابتكار المناهج العلمية ومجالات العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية.
5. منطلق تشريعي: القرآن مصدر التشريع الأول للمجتمع الإسلامي فردًا وجماعة ومجتمعًا وأمة، وتستمد منه باقي مصادر الشريعة مبادئها ومقاصدها، ويسمى “القرآن” المصدر الرئيس للشريعة، وباقي المصادر تسمى “المصادر الفرعية”.
6. منطلق ثقافي: يشكل القرآن هوية المسلم الثقافية، ويحد ثقافته الإسلامية بحدوده وخصائصه الفريدة في مقابل الهويات، التي تصنعها الثقافات الوضعية الأخرى، فالقرآن هو المصدر العلوي الذي يمد الشخصية المسلمة ببعدها الغيبي المتمايز عن المنابع الوضعية للإنسان المعاصر، كما أنه يقدم إرشاداته وتوجيهاته الدنيوية من منظور متباين بما يحقق مقاصد العمران الرئيسة للإنسان والكون بصفة عامة.
حقوق القرآن
يمكن أن نعدد حقوقًا للقرآن هي واجبات المسلم نحوه، ونعرض هنا لأهم هذه الحقوق – كما يبينها القرآن ذاته- يوضحها الشكل التالي:
وسوف نتناول في الجزء الثاني من المقال بالشرح وبعض التفصيل لهذه الواجبات نحو القرآن العظيم.
[1] من المفارقات السيئة أنه في بعض جامعات البلدان العربية الكبيرة وٌزِعَ منشور من رئاسة الجامعة يحظر استخدام الآيات القرآنية في المقررات الدراسية, وهذا نوع من هجر القرآن أو تعمد الهجر في وسيط مهم من وسائط التربية والتعليم في العالم المعاصر.
[2] يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن العظيم، ص442.