(ذرية بعضها من بعض) قالها الله عز وجل حين ذكر بعض العوائل التي اصطفاها على العالمين إذ جعل فيها النبوة والكتاب، كآل إبراهيم وآل عمران عليهما السلام.وما يزال الناس يرون في هذه الحياة أسراً وعوائل ، تتوارث خصالاً من الخير أو الشر، وتنزع منازع متشابهة من الهدى أو الضلال، وكم يعرف الناس من أسر توارثت الغنى، وعوائل توارثت العلم، وبيوتات توارثت الظرف والكرم، أو توارثت اللؤم وبعض الخصال الذميمة.

صاحبنا في هذه المقالة “فريدريش روزن” سليل عائلة حبب إليها العلم والعمل الدبلوماسي، فهو عالمٌ ابن عالم أبو عالم، وهو دبلوماسي ابن دبلوماسي أبو دبلوماسي.

ولد روزن في  عام ١٨٥٦ بإحدى مدن ألمانيا التي كانت تدعى حينها “بروسيا”، وكان والده قنصلاً لبلاده لدى العثمانيين  في القدس الشريف.. ولذا عاش فريدريش طفولته بنكهة مقدسية شرقية، فيها من روح القداسة، ومن رائحة البهارات المشرقية، ومن مذاق الطعام العربي، ومن نبرة الحديث العربي.

وما أسهل أن تضيف هذه الحياة إلى طفل صغيرٍ من اتساعٍ في الأفق وثراء في التجربة.. لكن ما ناله الفتى روزن لم يكن قليلاً البتة بالإضافة إلى ما سبق؛ فقد أتيح له أن يتعلم اللغة العربية من أطفال القدس، والإنجليزية من أمه التي عاشت طفولتها في لندن فحذقت بها الإنجليزية، وهكذا نشأ الفتى متعدد َاللغات،  واسع الأفق، منفتحاً على مختلف العوالم التي يعيش فيها بنو البشر.

ولئن كانت هذه هي حصيلة الطفولة التي غنمها روزن وهو بعدُ طفلٌ صغير، فإن همته لم تقف به عند هذا الحد من المعرفة بعدما جاوز سن الطفولة؛ فقد تعلم حين كبُر اللغة الفارسية، واللغة الهندية، حتى إن مسيرته العملية ابتدأت بتدريس اللغة الهندية في معهد اللغات الشرقية في برلين، قبل أن يذهب إلى وزارة الخارجية الألمانية التي جعلته قنصلاً لها في بيروت لمعرفته باللغة العربية، ثم جعلته موظفا في السفارة الألمانية بطهران لمعرفته باللغة الفارسية، وهكذا يغدو تعلم اللغات استثماراً يستحق الجهد المبذول فيه.

أمضى روزن ثماني حجج في طهران، صقل فيها لغته الفارسية، واطلع على الكثير من معارفها وأدبها، وفقه نحوها حتى ألف كتاباً لطيفاً يحمل عنوان “هل تتكلم اللغة الفارسية؟”، ثم انتقل عمل روزن إلى القنصلية الألمانية في بغداد، وبعد عام واحد نقل ليكون قنصلاً عاماً بالقدس، ويا لها من أقدار قضت بأن يعود في الثانية والأربعين من عمره ليقعد في مفس المقعد الذي قعد فيه أبوه قبل بضعة عقود من الزمن. وهكذا يدور الزمان ببنيه، ويعيد التاريخ نفسه!

سعد روزن دون ريب حين عاد إلى القدس من جديد، وأمضى ثلاث سنوات جميلة يمتزج فيها حاضره -وهو القنصل الألماني في القدس- بماضيه، وهو ابن القنصل الألماني في القدس، يرتع في أزقتها، ويرافق أطفالها وصبيتها، ويتعلم لهجتها من أقران الطفولة الذين قد يعثر على بعضهم اليومَ بعدما جازوا عمر الشباب إلى خانة الاكتهال.

لكن حياة الدبلوماسيين لا تستقر على حال، فقد وجد روزن نفسه واحداً من الدبلوماسيين العاملين في ديوان وزارة الخارجية الألمانية في برلين، ولم يكن العمل هناك رتيباً، إذ تخللته رحلات دبلوماسيةٌ شارك روزن في بعضها.. ومن ذلك مشاركته في بعثة دبلوماسية إلى الحبشة، التقى أثناءها بإمبراطور الحبشة، ونقل له رغبة الحكومة الألمانية في التنقيب عن الآثار ببلاد الحبشة، وقد تلقى الإمبراطور تلك الرغبة بالقبول..

وهبّت رياح الترحال، وهذه المرة وجد شد روزن رحاله ليكون مندوباً لألمانيا في طنجة، وليجرب الحياة بضع سنوات في مغرب  العالم الإسلامي كما جربها في مشرقه، وقد أتاحت له تلك السنوات التي قضاها في طنجة أن يتعرف إلى لون شديد الجمال والفرادة من الحضارة الإسلامية، تمتاز به بلاد المغرب العربي، في نمط البنيان الفريد، واللهجة المميزة، والطعام المختلف، والأزياء ونمط المعيشة التي تختلف عما ألف روزن رؤيته في القدس وفي طهران.

وأراد الله لروزن أن يشاهد المزيد من أرضه الواسعة، فإذا بقرار يصدر من برلين ينتقل بموجبه روزن من غرب إفريقيا إلى شرق أوروبا ليعمل وزيراً مفوضاً لألمانيا في بوخارست عاصمة رومانيا.

وبعد عامين من الحياة في بوخارست يحمل روزن متاعه ليعمل وزيراً مفوضاً لألمانيا في لشبونة عاصمة البرتغال، وهناك يمضي أربع سنوات ما لبث أن انتقل من بعدها إلى لاهاي بهولندا سفيراً مفوضاً لسنواتٍ أربع أخرى.

وهكذا يقترب روزن من نهاية حياته الدبلوماسية الثرية، ويتوجها بالعمل في أرفع المناصب الدبلوماسية في بلاده: وهو منصب وزير الخارجية، الذي عمل فيه لمدة وجيزة قبل أن يتقاعد في الخامسة والستين من عمره، ويمضي أيامه يكتب باستفاضة عن تجربته الدبلوماسية في كتاب ضخم من مجلدتين، ويتمادى به الحال فيكتب عن أيام صباه وشبابه في فلسطين، ومشاهداته في العراق وإيران.

ولأنه شديد الاهتمام بالثقافة الفارسية، وواسع المعرفة بها، فقد ألّف كتاباً كبيراً عنوانه “فارس، بالكلمة والصورة”، تناول فيه إيران من مختلف النواحي السياسية والتاريخية والاجتماعية والحضارية. كما ترجم رباعيات الخيّام إلى الألمانية شعراً.

وكما ورِث روزن الدبلوماسية عن والده، ورّثها لولده، الذي شرع في الترحال وفق ما تمليه قرارات وزارة الخارجية الألمانية، ولما بلغ روزن التاسعة والسبعين كان ابنه موظفاً بالسفارة الألمانية في بكين عاصمة الصين، فقرر الأب أن تكون صهلتُه الأخيرة في بكين، سافر إليها، وقضى مع ابنه وقتاً حميمياً، كان ذلك هو اللقاء الأخير، والسفر الأخير الذي لا إياب منه إلى الوطن.. وفي المستشفى الألماني بالعاصمة الصينية مات روزن، مات مسافراً كما عاش مسافراً!