في القرآن الكريم سورتان متشابهتان ومتجاورتان في الزمان والمكان، هما سورة المزمل وسورة المدثر. فأما تشابههما فحسبنا منه التشابه اللفظي والمعنوي في الاسم المأخوذ من نداء الافتتاح لكل منهما (يا أيها المزمل) (يا أيها المدثر) وكذلك ابتداء كل منهما بالأمر بالقيام.
وأما تجاورهما في الزمان فهو نزولهما متتابعتين أو متقاربتين ضمن أول ما نزل من القرآن الكريم. وأما تجاورهما المكاني فأعني به تتابعهما في ترتيب السور بالمصحف الشريف، مع أن كثيرا من سور القرآن وآياته تتابعت عند النزول وتباعدت عند الترتيب.
ما أريد الوقوف عنده في أمر السورتين الكريمتين هو الأمر بالقيام الوارد في مطلع كل منهما:
ـ (يا أيها المزمل قم الليل)
ـ (يا أيها المدثر قم فأنذر)
أمران بلفظ واحد، لكن في اتجاهين مختلفين. أما الأمر الأول (قم الليل) فقد أصبح له شأن وذكر في الدين والتدين، وفي التعبد والتقرب، وفي التربية والتزكية. وأصبح له اسمه الخاص به الدال عليه بلا غموض ولا التباس، وهو “قيام الليل“.
وأما الأمر الثاني (قم فأنذر) فلم يحظ بشيء مما حظي به الأمر الأول، ولذلك فهو قصدي في هذه الورقة من “أوراق التجديد“.
لقد كان المفروض بالنظر إلى سورة المدثر ومطلعها، ومقارنتها مع شقيقتها سورة المزمل ومطلعها، أن نتحدث عن “قيام النهار” مثلما نتحدث عن “قيام الليل” وإذا كان مضمون قيام الليل هو الصلاة والذكر والتلاوة (قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا) فإن قيام النهار هو الدعوة بكل صيغها وما تتطلبه من مجاهدة ومكابدة (قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) وسورة المزمل التي جاءت بقيام الليل هي نفسها لم تلبث أن وجهت الأنظار إلى قيام النهار قبل أن تصرح به شقيقتها المزمل. فبعد قوله تعالى تنويها بقيام الليل وأهميته (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا) أضاف سبحانه (إن لك في النهار سبحا طويلا).
قال العلامة ابن عاشور يوضح مغزى هذه اللفتة القرآنية (فيتحصل من المعنى: قم الليل، لأن قيامه أشد وقعا وأرسخ قولا، ولأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك، وشغل النبي ﷺ في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقاد المؤمنين المستضعفين فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل) التحرير والتنوير ج 92 ـ ص 462.
وكما كان رسول الله ﷺ يشغل جزءا من ليله في قيام الله، فقد كان يشغل عامة نهاره بقيام النهار، وفي مواجهة المناوئين له المتكتلين ضده (وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَدا قال إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا)
وإذا كان “قيام الليل” له ماله من عظيم الفضل وعظيم الأثر في التربية والتزكية فإن حكمه في الدين يبقى في حدود الندب والترغيب، ويبقى مجاله الزمني في حدود جزء من الليل يزيد أو ينقص، أما “قيام النهار”، بما هو دعوة وتبليغ، ومجاهدة ومكابدة، ومجادلة ومجالدة، يتضمن عددا من الفرائض والواجبات، فضلا عن مندوباته ومستحباته، لذلك فهو ألزم وآكد، ولذلك كان زمانه والقيام به “سبحا طويلا“.
إننا اليوم ـ وفي هذه الأيام بالذات ـ بحاجة إلى إحياء قيام النهار واستعادة مكانته وفاعليته. إننا بحاجة إلى قيام الدعوة مثلما نحن بحاجة إلى قيام الدعاء. إننا بحاجة إلى الأعمال المكونة لقيام النهار (قم: فأنذر- وربك فكبر- وثيابك فطهر- والرجز فاهجر- ولا تمنن تستكثر) مثلما نحن بحاجة إلى الأعمال المكونة لقيام الليل (الركوع– السجود- التلاوة- الذكر- الدعاء). بل الأعمال الأولى هي أوجب في الشرع وآكد في الواقع.