يعتبر علم البلاغة العربية من العلوم المغضوب عليها في هذا العصر، وذلك لصعوبتها واقتضائها معرفة واسعة بلغة العرب وأساليبهم، لذلك قل الدارسون المعاصرون الذين تصدوا للبحث فيها، وقد كان الراحل أحمد مطلوب أحد العلماء الأفذاذ الذي وهبوا أعمارهم لدراسة البلاغة العربية وتدريسها والبحث في قضاياها، بل والبحث في مختلف علوم اللغة العربية وآدابها ومعجمها، وتدل مؤلفاته الوفيرة وبحوثه الكثيرة على هذا الأمر أصدق دلالة.

“ثانيةً يغادرنا عبد القاهر الجرجاني” بهذه الكلمة المعبرة نعى اتحاد كتاب وأدباء العراق العالم الفذ والباحث الجاد الدكتور أحمد مطلوب، وزير الثقافة العراقي الأسبق ورئيس المجمع العلمي العراقي سابقا الذي توفي أمس السبت 22 يوليو 2018، وهي كلمة دالة فقد كان أحمد مطلوب جرجاني زمانه بلا منازع.

ولد الراحل أحمد مطلوب 1936 في تكريت بالعراق، درس الابتدائية والمتوسطة في تكريت (1941-1950)، ثم درس الثانوية في كربلاء وأتمها في الكرخ ببغداد، وحصل على البكالوريوس في اللغة العربية من كلية الآداب والعلوم ببغداد (قسم اللغة العربية) بدرجة امتياز عام 1956، وكان الأول على جميع اقسام الكلية، ثم حصل على الماجستير في علم البلاغة والنقد بدرجة جيد جدا من جامعة القاهرة عام 1961، ثم الدكتوراة في البلاغة والنقد بمرتبة الشرف الأولى من جامعة القاهرة سنة 1963.

عمل مدرسا في ثانوية كركوك عام 1957، وانتقل إلى العمل كمدرس في إعدادية التجارة ببغداد 57-1958، ثم عمل في كلية الآداب بجامعة بغداد منذ عام 1958، معيدا فمدرسا فأستاذا مساعدا فأستاذا مشاركا ثم أستاذا. أصبح مديرا عاما للصحافة والإرشاد في وزارة الثقافة والإرشاد عام 1964، وعمل مديرا عاما للثقافة بنفس الوزارة عام 1964، ثم رئيسا لقسم الإعلام بجامعة بغداد، في عام 1967 صار الدكتور أحمد مطلوب وزيرا للثقافة والإرشاد في الجمهورية العراقية. ثم التحق بجامعة الكويت أستاذا منتدبا أعوام 1971 – 1978م، عمل أستاذا زائرا في معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة وجامعة مارتن لوثر في ألمانية الديمقراطية وجامعة وهران في الجزائر.

كان الدكتور أحمد مطلوب شديد الاهتمام بعلوم اللغة العربية خاصة البلاغة العربية التي كتب فيها عدة بحوث أهمها عمله الموسوعي الرائد الموسوم بـ”معجم المصطلحات البلاغية وتطورها” الذي ضم 1100 مصطلح جمعها المؤلف من مئات كتب اللغة والأدب والبلاغة، ودرسها دراسة علمية ورتبها ترتيبا منهجيا رائدا، وقد أراد أحمد مطلوب من وراء هذا العمل الموسوعي الرائد –كما قال في المقدمة- “وضع معجم تاريخي لهذا الفن الذي لم ينضج ولم يحترق”.

ويقوم معجم المصطلحات البلاغية لأحمد مطلوب على “ترتيب الأنواع ترتيبا هجائيا لتسهل مراجعة النوع وجمع أجزائه في مادة واحدة، والإشارة إليها إذا جاءت منفردة، وجمع الآراء المختلفة في الفن الواحد، لتسهل معرفة أول من بحث فيه”.

كما قدم الدكتور أحمد مطلوب للعربية معجما آخر رائدا في مصطلحات النقد العربي، في فترة كان النقد العربي في أشد الحاجة إلى من يستخرج له مصطلحاته الأصيلة ويعرفها ويرتبها ترتيبا يسمح بالاستفادة منها في حقل الأدب والنقد، وقد ضم هذا المعجم 818 مصطلحا بلاغيا، ورتبها على الطريقة نفسها التي رتب بها معجم المصطلحات البلاغية.

ومن أعماله الرائدة في مجال المصطلحات المتخصصة كتابه معجم الملابس في لسان العرب الذي ألفه كي يسد النقص الحاصل في معجم الملابس الذي ألفه المستشرق الهولندي رينهارت دوزي ونشره في أمستردام – هولندا سنة 1845، والذي ظل عمدة الباحثين الأوربيين في هذا المجال، وكان هذا العمل الرائد معروفًا إلى حد ما عند الباحثين العرب، وبعد قرن وربع القرن شرع باحث عربي في نقله إلى العربية، وهو د. أكرم فاضل سنة 1971.

ولما كانت المادة التي تضمنها معجم دوزي محدودة فقد اقتصر على أكثر من مائتين وخمسين كلمة فإن الأستاذ الدكتور أحمد مطلوب شرع في عمل جديد في هذا المجال معتمدًا على لسان العرب لابن منظور، وهكذا ظهر معجمه المسمَّى: معجم الملابس في لسان العرب، بيروت 1995.

وقد كان أحمد مطلوب عالما موسوعيا منقطعا للبحث والقراءة والتأليف، وتلك سمته منذ شبابه، كما كان ملتزما بأخلاق العالم ودوره، وقد سجلت أستاذته الدكتورة سهيرة القلماوي تلك الملاحظة في تقديمها لكتابه “البلاغة عند السكاكي” الذي أشرفت عليه بحثا للماجستير، فقالت: “ولا يسعني أن أنهي الحديث عن الدكتور أحمد مطلوب دون التعرض لخلقه العلمي المستمد من خلقه الشخصي، فإني من المؤمنين بأن الشخصية لا تتجزأ، وأن من كان أمينا في معاملاته وسلوكه اليومي، أمين على علمه ودراساته. إن أحمد مطلوب الإنسان يمتاز بقوة الإيمان، وشفافية النفس، ووضوح الهدف، كما يمتاز باستعداد نادر للبذل في سبيل تحقيق الخير للناس”.

توفي أحمد مطلوب ممسكا بخط الوفاء للغة والبلاغة والإنسان، ذلك النهج الذي نشأ عليه وعاش عمره ملتزما به، فكان آخر ما كتبه هو رسالة وجيزة يرد فيها جميل زوجته خديجة الحديثي التي كتبت عنه بوصفه رفيقا لدربها، فكتب عنها “رفيقة العمر” وهي رسالة فيها حب ووفاء وغزل وذكريات وشيء من حياة تلك المرأة العراقية الوفية المباركة.

نال أحمد مطلوب جائزة الملك فيصل العالمية في فرع اللغة العربية والأدب في حفل أقيم في الرياض وجاء فوز مطلوب بهذه الجائزة مناصفة مع البروفيسور محمد رشاد محمد الصالح حمزاوي (التونسي الجنسية) أستاذ اللغة العربية ورئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس سابقا وذلك لعام 1428هـ.

وقد أصدر أكثر من 50 كتابا في البلاغة والنقد والأدب والمعاجم والتعريب. و15 كتابا محققا من كتب التراث في الشعر وبلاغة القرآن الكريم. وقد تم نشر أكثر من 60 بحثا علميا في البلاغة والنقد واللغة وعلوم القرآن والتفسير والحديث وتعريب العلوم والمصطلحات العلمية.

ولم يكن أحمد مطلوب مجرد عالم بعيد عن واقع حياة الأمة ومدافعتها للنهوض، بل أسهم بشعره ومواقفه في كثير من قضايا الأمة العربية التي كان مؤمنا بها حد التوله، وقد اعتقل بعد العدوان الثلاثي على مصر بسبب مواقفه.

رحم الله الدكتور والعالم العراقي أحمد مطلوب وجزاه خيرا عن ما قدمه للأمة واللغة العربية من خدمة جليلة.