بحلول القرن التاسع عشر بدا جليا أن الخلل عم الدولة العثمانية وشمل كافة المناحي فيها، وبمضي الوقت تبلور تياران يحملان رؤيتان في كيفية تدارك الخلل وتحقيق الإصلاح

الأول: تيار الاقتباس عن الغرب (التغريب)، وهو أحد ثمار سياسة إرسال السفارات من الطلاب العثمانيين إلى والتي أسفرت عن بروز بعض المثقفين والساسة العثمانيين الذين اتصلوا بالغرب وأعجبوا بأفكاره، وذهبوا إلى أن الإصلاح لا يكون إلا بالمحاكاة المطلقة للغرب.

والثاني: تيار الإصلاح الإسلامي، واجتذب إليه نفر من رجال الدولة وبعض الدارسين الإسلاميين ممن آمنوا بضرورة تأسيس الإصلاح على المبادئ الإسلامية ووضع ضوابط لما يقتبس عن الغرب، ومن أشهر دعاة هذا التيار المؤرخ والمصلح العثماني أحمد جودت باشا (1822-1895).

المسار الوظيفي وأهم الإنجازات

ولد أحمد بن اسماعيل أغا في مدينة لوفيتش البلغارية لأسرة مرموقة كان أبوه عضوا بمجلس المدينة وجده مفتيا لها، وتلقى تعليما دينيا تقليديا فدرس اللغة العربية ثم العلوم الشرعية، ثم توجه إلى استانبول في عام 1839 وهناك التحق بإحدى المدارس الدينية وتخرج بتفوق، ولكنه لم يقنع بذلك والتحق بمدرسة الهندسة العسكرية ودرس بها العلوم الرياضية الحديثة ثم أضاف إليها دراسة التاريخ والقانون واللغة الفارسية، وهذا الجمع بين المعارف الإسلامية والمعارف الحديثة حال دون انخراطه في سلك العلماء التقليديين -رغم اشتغاله قاضيا في مستهل حياته العملية – وأهله للعمل كمستشار قضائي في مكتب رشيد باشا؛ الذي تعين بضع مرات في منصب الصدارة العظمى [رئاسة الوزارة]، وكان رشيد يبحث عن شباب يجمعون ما بين الثقافتين الإسلامية والمعاصرة للعمل بالجهاز الإداري للدولة وينهضون بعبء الإصلاح دون أن يتوقع منهم بوادر الرفض والمقاومة، وبدا جودت مناسبا تماما لذكائه وتعدد مهاراته واتساع معارفه.

شق جودت طريقه سريعا فخلال الفترة الواقعة بين عامي (1846-1858) شغل عددا من المناصب المهمة، فتعين عام 1850 مديرا لمدرسة دار المعلمين، وأصبح عضوا بمجلس التنظيمات وعضوا ثم رئيسا لقومسيون الأراضي الذي انعقد لأجل سن القوانين المتعلقة بالأراضي العثمانية، وعضوا بالجمعية العلمية العثمانية، كما تقلد لاحقا عدة مناصب وزارية كالأوقاف والمعارف والعدلية والداخلية والتجارة والصناعة.

ومع انشغالاته الوظيفية انكب جودت على القراءة والتأليف وخلف وراءه آثارا فكرية منوعة  تجاوزت العشرين مؤلفا باللغات العثمانية والعربية والفارسية، وقد ارتبط اسم جودت بعملين كبيرين:

الأول، كتاب تاريخ آل عثمان المعروف باسم “تاريخ جودت” 12 مجلد وقد صاغه على طريقة الحوليات التاريخية وهو يغطي الفترة التاريخية الواقعة بين (1774-1826)، ورغم أنه كُلف بوضعه ليكون تاريخا رسميا للدولة العثمانية فلم يعمد إلى تقديم تاريخ يرضي السلطان العثماني كدأب المؤرخين الرسميين، وإنما غلب الرؤية النقدية إذ حدد بشجاعة الأسباب التي أدت إلى تراجع الدولة ولم يتوان عن تعيين السلاطين الذين أسهموا في هذا التراجع وانتقاد سياساتهم، ولذا حظي الكتاب بسمعة علمية طيبة وبتقدير الدارسين الغربيين واحتل موقعه كأحد المصادر الرئيسة في تاريخ الدولة العثمانية.

والثاني، إشرافه على إعداد مجلة الأحكام العدلية، وهي أول محاولة لتقنين الفقه الإسلامي، وتقع في 16 مجلدا، ولم يكن إنجازها أمرا هينا فرجال الدولة المتحمسين للاقتباس من الغرب الذين نعتهم جودت بالمتفرنجين كانوا يأملون تطبيق القانون الفرنسي وشرعوا في ترجمته، لكن جودت وتيار الإصلاح أفلحوا في إقناع السلطان بوضع قانون مدني مستمد من الفقه الإسلامي، وعرضه هذا لحنق السفير الفرنسي الذي دس له لدى السلطان أثناء إعدادها حتى أقاله من منصبه كوزير للعدلية عقب صدور المجلد الخامس إلا أنه أعاده إليه ليواصل إنجاز عمله الهام.

لماذا تأخرت الدولة العثمانية

استفاض جودت في تاريخه في دراسة أحوال الدولة العثمانية وعقد فصلا لبيان دواعي الخلل الذي طرأ عليها، ومما ذكره في ذلك أن القوانين والأنظمة التي سيرت الدولة زمنا باتت في أمس الحاجة إلى التغيير بفعل التغيرات التي طرأت على عادات العثمانيين وطرق معايشهم والمتغيرات العالمية، وهو ما يستوجب قيام رجال الدولة بدراسة هذه التغيرات وصوغ نظم وقوانين جديدة تلائمها.

ومن الأسباب الأخرى الإخلال بقواعد الجند الإنكشارية التي كانت تقتضي ألا ينضم إليها إلا من تربى منذ صغره في ثكناتهم فصارت مفتوحة لفئات لا دراية لها بالحرب، ومنها ركون السلاطين إلى الراحة والدعة وكان السلاطين الأوائل لا يفترون عن الجهاد أو الانخراط الفعال في تدبير أمور الدولة، ومنها أن منصب الصدارة العظمى بات يوجه إلى من لا يستحقه ولم تثبت كفاءته، ومنها تداخل المقربين بين السلطان ووزرائه، وأخيرا ضياع هيبة العلماء واضمحلال العلم.

مجمل أفكاره الإصلاحية

آمن جودت باشا بأن الإصلاح ينبغي أن يراعي هوية الدولة الدينية وخصوصيتها الحضارية، فالإسلام كما يعتقد هو سر قوة العثمانيين وهم مدينون له لأنه البوابة التي دخلوا منها إلى التاريخ، وبالتالي لا يمكن تخليهم عنه وإلا انهارت الدولة وفقدت سطوتها على ولاياتها الإسلامية، وفيما يلي بعضا من أفكاره الإصلاحية:

مهام الدولة وعلاقة الإسلام بها، يعتقد جودت أن هناك وظيفتين ينبغي على الدولة القيام بهما، فالأولى إحقاق الحق بإجراء العدل بين العباد، والثانية حماية الحدود من الاعتداءات الخارجية، وفيما يخص الأولى فإن إصلاح النظام القضائي وتقنين الفقه كانت كفيلة بإصلاحه، أما تحقيق الثانية فكانت موضع شك بالنسبة إليه بالنظر إلى تصاعد محاولات تنحية الدين وإحلال الرابطة الوطنية محله باعتبارها قادرة على استيعاب العناصر غير المسلمة، وحول هذا المعنى يقول “في أوروبا حلت الوطنية محل الانتماء الديني وحدث ذلك في نهاية العصور الإقطاعية، إن ابناءهم يسمعون كلمة الوطن منذ صغرهم، مما جعل نداء الوطنية فعالا لديهم، ولكن إن نحن قلناها لجنودنا فسيتراءى لهم أننا نعني بها قراهم، وإذا كنا سنتبنى هذه الكلمة ليصبح لها ذات المفعول الذي في أوروبا فلن يكون لها مفعول (الجهاد) ولن يمكنها أن تحل محلها، وعندئذ ستصبح جيوشنا بلا روح تحركها”.

شمولية الإصلاح، آمن جودت بضرورة إصلاح ما هو قائم وموجود وليس هدمه وتغييره، وحتى يكون الإصلاح ناجعا يجب أن يشمل جميع مؤسسات الدولة، وحول هذا المعنى يقول “إن الدولة تتكون من مؤسسات إدارية وعسكرية وقضائية، ونهضة الدولة تتحقق بقدر ما يتحقق الانتظام والاتساق الكامل بين هذه المؤسسات، فالدولة كالبناء لا يمكن أن يرتفع ويعلو إلا إذا ارتفع أساسه بشكل متساو ومتناسق، وإلا انهدم البناء”.

احترام الإرادة الشعبية، فطن جودت باكرا إلى أهمية احترام الإرادة الشعبية في الإصلاح وحذر القائمين على الحكم من خطورة تجاهل الرأى العام، وهو يرجع فشل المحاولات السابقة للإصلاح إلى عدم التفاتها إلى الرأى العام العثمانى الذى كان يرى أن الجيش قرين الدولة وقامت بتحديثه عنوة، وكان يعتقد أنه كلما أمعنت تلك الاصلاحات فى التغريب، كلما ازداد نفور العثمانيين منها لارتباطها بالغرب.

الموقف من الغرب: نظر جودت بارتياب إلى النوايا الأوروبية بشأن الدولة العثمانية والعالم الإسلامي، ولذا وقف موقفا متشددا من دعاة التغريب وخاض حربا ضدهم، ورأى في دعوتهم للاقتباس المطلق عن الغرب طمسا لأصول الدولة التي تنهض على أسس إسلامية، وقد وضع شروطا لعملية الاقتباس كأن تكون مما مست إليه الحاجة كالنظم العسكرية والإدارية التي لا تصادم أصول الدولة ومبادئها، وأن تكون بقدر الضرورة فلا ينبغي اقتباس كامل النظم الأوروبية دون النظر إلى اختلاف السياق الحضاري.

خلاصة القول أن جودت باشا كان أحد رجال الإصلاح العثماني المعدودين الذين امنوا بقابلية الإسلام لأن يكون ركيزة للإصلاح والنهوض، وهذا الإصرار على علاقة الإصلاح بالإسلام هو ما دفع دائرة المعارف البريطانية لوصفه بأنه “الأكثر محافظة بين أقرانه”.