إن وجود أي أمة مرتبط أساسا بمحافظتها على هويتها الحضارية، كما أن زوالها الفعلي مرتبط بفقدانها السمات الحضارية التي تميزها عن غيرها من الأمم، وفي زمن “الهويات القاتلة” بتعبير أمين معلوف ليس هناك خيار ثالث أمام أي أمة، فهي إما قاتلة أو مقتولة حضاريا، ومن أهم وسائل المحافظة على الهوية ربط النخبة بثقافتها وملامح حضارتها، وفي هذا المقال نحاول تسليط الضوء على قضية في صميم موضوع الهوية، ألا هي موضوع “مادة الثقافة الإسلامية” في الجامعات؟
كان المرحوم محمد المبارك أول من انتبه من علماء العصر إلى أهمية تدريس هذه المادة في الجامعات العربية على المستوى الجامعي لكل الكليات، من أجل تخريج نخب قادرة على التمثل الحضاري للأمة، وسمى المادة في ذلك الحين “نظام الإسلام”، وحدد مضمونها بأن تعرض الإسلام بمفهومه العام ونظرته الشاملة لله تعالى والكون والإنسان، ورؤيته لتنظيم حياة الإنسان فردًا ومجتمعًا في هذه الحياة الدنيا، على أساس أنها طريق إلى الآخرة ليوم الحساب، وقسمت الفصول في كتاب نظام الإسلام هذا إلى أركان ثلاثة: الله، والكون، والإنسان .
وقد سعى محمد المبارك من خلال موقعه العلمي والأكاديمي إلى التبشير بهذه المادة وعمل على إدراجها في مختلف مناهج التعليم الجامعي في العالم العربي، وكان من أنجب تلامذته الذين أخذوا عنه شعلة الاهتمام بهذه المادة الدكتور عدنان زرزور الذي طور أفكار ورؤى شيخه وسماها مادة (الثقافة الإسلامية)، وقدم محاضرات كثيرة حولها وأسهم في جلسات عدة لتطوير مقرراتها، وتوج ذلك بدراسات منشورة منها كتابه الأول حول (إنسانية الثقافة الإسلامية) الصادر عن المكتب الإسلامي 1980، والذي نشر بعده بعشر سنوات كتابه الجامع (الثقافة الإسلامية في الجامعات) الذي صدر أيضا عن المكتب الإسلامي 1990، ثم كتابه الصادر 1994 المعنون بـ(في الفكر والثقافة الإسلامية: المدخل والأساس العقائدي) إضافة إلى بحوث في الموضوع منشورة في مجلات علمية عديدة.
لكن رغم الانتباه المبكر لأهمية الموضوع والتأسيس النظري والثقافي له عن طريق الرواد الأوائل أمثال المبارك وزرزور إلا أن عدة إشكالات ما تزال مطروحة أمام هذه المادة المهمة، أولها إشكال التعريف؛ فماذا تعنيه الثقافة الإسلامية ما يزال بدون إجابة شافية؟
يعتبر مفهوم الثقافة من المفاهيم التي لم تُعَرَّفْ تعريفًا واضحًا قاطعًا للجدل، فكان معناها الاصطلاحي أوسع من معناها اللغوي، حيث عرفها كل باحث حسب خلفيته الثقافية والحضارية، كما أنها من المفاهيم التي جنت عليها الترجمة فلفظ (Culture) الذي أَطَّر أغلب محاولات تعريف هذا المفهوم عربيا له دلالات في اللغة اللاتينية أقرب إلى المهنية منها إلى الثقافية، حيث يرتبط بالزراعة وفضائها، وقد عانى هذا المركب الإضافي (الثقافة الإسلامية) من الضبابية نفسها التي عانى منها مفهوم الثقافة بوصفها هي الكلمة المركزية في هذا التركيب.
الإشكال الثاني الذي ما يزال مطروحا أمام مادة الثقافة الإسلامية في الجامعات هو: ماذا ينبغي أن يهتم به هذا المقرر، هل يركز على بناء العقليات أم على التزويد بالمعارف؟ هل دوره أن يحصن عقول الطلبة من الأفكار الوافدة أم أن دوره هو تزويدهم بأدوات كشف الزائف وأدوات غربلة الوافد وأدوات بناء الهوية الصامدة والمتصدرة للحضارة الإسلامية؟
في ضوء هذا الارتباك انتبه الدكتور محمد المصلح إلى أنه من الخطأ تحرير مقرر الثقافة الإسلامية في ضوء تعريف الثقافة، وهي إلماعة ذكية حيث إن ذلك سيذهب بمقرر الثقافة الإسلامية إلى مجالات تفقده تميزه وتدخله في مقررات مواد أخرى، كما أنه سيفقد مقررها موضوعات مهمة كان ينبغي أن تكون من صميمه.
ثم إن هناك تحديات لابد أن يواجهها مقرر الثقافة الإسلامية في الجامعات، ومن أبرزها –حسب الدكتور المصلح-احتلال الخارطة الذهنية الكلية للإسلام
ـ الغربة عن الهوية الحضارية للأمة
ـ الجمود والتسطيح الفكري
ـ فقدان الدور الرسالي والقيمي للحياة
ـ انحسار الفاعلية والإبداع
ـ ضعف الحصانة ضد الجراثيم الثقافية والأفكار الوافدة.
وإذا كانت تلك هي أهم التحديات التي ينبغي أن تجد إجاباتها في مقررات الثقافة الإسلامية في الجامعات، فإن تلك المقررات ينبغي أن تضع في حسبانها خصوصية العصر وانتشار المعلومة الذي يميزه، وهو ما يجعل الأفكار غير الصلبة جدا غير قادرة على حماية نفسها من حالة السيلان –بتعبير زيجمونت باومان- التي يعيشها إنسان اليوم ثقافةً وقيمًا ومعارفَ، وهو ما يستدعي –حسب وجهة نظري- التأكيد على تراتبية مصادر المعرفة في الإسلام، حتى لا نجد أنفسنا ندافع بحماس عن فهم بشري منحناه قوة الوحي وإطلاقيته، وغفلنا عن نسبية الفهم زمانا ومكانا وإنسانا.
ثم إنه من الأمور التي ينبغي أن يضطلع بها مقرر الثقافة الإسلامية في الجامعات إيضاح واقع التفكير العلمي والعقلي في الإسلام، من خلال دراسة المبادئ والنظم وكليات المعارف الإسلامية النظرية والعلمية، ومن خلال دراسة نماذج من التاريخ العلمي عند المسلمين، وقد لاحظ أحد الباحثين أن العلوم الشرعية والعلوم التطبيقية تتطوران وتتراجعان في فضاء الحضارة الإسلامية جنبا إلى جنب، وهو ما يؤكد أن طبيعة الدين الإسلامي طبيعة علمية وليست خرافية أسطورية كما كانت الكنيسة التي ثار عليها مثقفو عصر الأنوار.
وهناك موضوع آخر ينبغي أن يأخذ مكانه في مقررات الثقافة الإسلامية وهو حل كبريات المشكلات التي أثارتها النظريات العلمية المعاصرة، وذلك عن طريق عرض مفاهيم الإسلام عرضا علميا معاصرا كنظام الاقتصاد الإسلامي ومفاهيمه السليمة الخالية من عيوب النظم الأخرى، وكنظام الأسرة وكنظام الحكم والأخلاق الإسلامية، وأسس كل ذلك الإيمانية والفكرية وفوائدها وثمراتها الفردية والاجتماعية.
كما أنه لا بد من التنبيه إلى ضرورة إدراج مادة الثقافة الإسلامية في مقررات مختلف الكليات، وخاصة العلمية مثل الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء إلخ، لأن دور تلك النخب إذا ارتبطت بهويتها سيكون فعالا وحيويا في بناء الأمة والنهوض بها، وسيكون تأثيرها السلبي بالغا إذا انسخلت عن هويتها، وفي الأخير لا بد من التنبيه إلى ضرورة منح هذه المادة وقتا كافيا من ذروة الوقت الأكاديمي، وأن لا نمنحها فضول الأوقات الدراسية.