تعد مسألة القراءة الجديدة للمتن القرآني من أهم القضايا الفكرية في الفلسفة الإسلامية المعاصرة، وقد شهدت عدة تجليات، ونحن هاهنا وقفنا ـ محاولين ـ رصد رؤية أبي القاسم حاج حمد، الذي حاول هو الآخر إعادة النظر في المداخل التأسيسية للرؤية التراثية للقرآن، والتي ظلت سائدة إلى الآن، واقترح إذ ذَّاك تجديدا نوعيا، يتأصل على المنهجية المعرفية التي منطقها التحليل الإبستمولوجي للقرآن، بوصفه المعادل الموضوعي للوجود الكوني وحركته، و تصبح الغاية من هذه الإبستمولوجيا التحليلية هي الاستيعاب والتجاوز من جهة، ونقد منطق فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية المعاصرة من جهة ثانية، وبهذا فقط يتحقق التجديد الذي سمَّاه أبو القاسم حاج حمد بأسلمة المعرفة والمنهج.

مقدمة: تعد إشكالية التجديد بحق من أهم الإشكاليات التي شغلت المفكرين المعاصرين وبالخصوص العرب منهم، وطالما أن هذه المسالة تقتضي النظر الفلسفي في أسباب التقدم والتخلف للشعوب، كان لزاما على مفكرينا طرق المنهج نفسه، فبدلا من وصف الدواء، لابد أولا من الوقوف على تشخيص العلة والتبصرة بها، إذ كلما كان التعرف عليها أدق كان توصيف الترياق لها أنفع و أشفى، والعكس بالعكس.

وبهذا سنستعرض أحد هؤلاء المفكرين المجددين العرب، الذين أرادوا بحث علل التخلف بدقة رياضية وإبستمولوجية، وسنجده ينتقد التقليد التجزيئي للتراث، أو للحداثة، ويدعو إلى التجديد المعرفي أو الإبستمولوجي الذي يبنى على منطق التحليل الرياضي لآيات الكتاب المطلق والمعادل للوجود الكوني وحركته، وليس المبني على ذلك المنطق التفسيري السائد، الخالي من روح التحليل المنطقي، والمنطلِق من المسلمات الظنية، والموصول بذلك إلى نتائج ريبية، وبعبارة وجيزة، لقد أراد محمد أبو القاسم حاج حمد ـ الذي نحن بغرض عرض رؤيته ـ بناء التجديد باسم إبستمولوجيا المنطق التحليلي الدقيق، المتعامل مع لغة القرآن بمنطق تحليلي للمفردات الموقعة في كلية الكتاب المطلق(القرآن الكريم) كتموقع النجوم في الكون المعادل لهذا الكتاب المهيمن، وبعد مصادرة مطلقية القرآن، تبقى الآليات اللازمة متجلية في إسقاط المناهج التحليلية على مضامينه، واستقراء ما يرمي إليه فحواه اللامتناهي، أخذا بأمره الأول ـ سبحانه ـ “اقرأ”.

إن مشروع أبي القاسم حاج حمد الذي نادى به، هو في الحقيقة جامع بين المقولات الكونية الثلاث: الغيب والإنسان والطبيعة، ولا محيد عن إحداها والتفكير خارجها، فالإنسان ينطوي على البعد الغيبي ــ بشتى أشكاله ـ كما يتموضع في الطبيعة متدبرا وفاهما لسننها، وعليه لا مناص من الكونية التوحيدية بين هذه الأخيرة، ولا حجة للوقوع في الرؤية التجزيئية والتّحايزية بينها كما أحدث ذلك مفكرونا مقلدين لغيرهم، أو متناسين أن هذه الأساسيات الأنطولوجية لابد من تكاملها، ومادام الإنسان مهيمنا على سلطتين ـ الغيب والطبيعة ـ من حيث معرفته أو جهله أنه في الطرف المقابل مُهيمَن عليه من طرف الغيب، ومهيمِن هو على الطبيعة من طرف تسخير الغيب له فيها، وههنا نتساءل: كيف يري أبو القاسم حاج حمد التجديد الإبستمولوجي في تحليل منطق المفردة اللغوية القرآنية، ومن ثمة لفهم مراميه التي لا تتوقف عن العطاء والكرم؟ وبعبارة أخرى ما ملخص مشروعه الابستمولوجي التحليلي ؟ ثم ماهي أبرز تطبيقاته الميدانية كرؤية تجديدية في التعامل مع التنزيل الكريم والمطلق؟

أولا ـ في مفهوم العقل التحليلي:

لم يكن العقل أكثر فاعلية وبروزا إلا و هو على حال ممارسة فعل العقلانية، والعقل في اصطلاح الجرجاني في معجمه هو:”قوة في النفس الناطقة، وهو صريح بأن القوة العاقلة أمر مغاير للنفس الناطقة، وقيل: العقل ما يُعقل به حقائق الأشياء[1]“، وقد أشار طه عبد الرحمن إلى أن العقل هو فعل لذات وليس البتّة اسما لها، استدلالا بالآية الكريمة،في قوله تعالى:”أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور”(الحج ـ44ـ)، وفي اعتراضه على دعوى ذاتية العقل بحكم اقتضاء تشيُّئه، ذهب للحكم بأن العقل فعل لِذات في الصدر وهي القلب، تماما كما أن السمع فعل للآذان والإبصار للأعين وهكذا [2].

هذا وقد أشار غاستون باشلار إلى ضرورة العقل التحليلي في العلم المعاصر، وقد أسماه بالعقل العلمي الناقد والرافض للمعرفة السائدة، حتى لو كانت تلك المعرفة مقدسة، وبين من خلال هذا أن الأخطاء تنشأ بفعل التعميم الأعمى والمتكرر للقضايا العلمية أو الفلسفية، والتعميم آفة تجمِّد الفكر، ومثَّل هنا بقانون فيزيائي عن السرعة والتسارع، “وبالإجمال يخفي مفهوم السرعة،هنا، مفهوم التسارع. ومع ذلك فأن مفهوم التسارع هو الذي يتطابق مع الواقع السائد، ومثال ذلك أن رياضيات الظواهر هي بحد ذاتها متراتبة وليس الشكل الرياضي الأول هو الشكل الأصح دائما، وليس الشكل الأول هو الشكل التكويني فعلا ودائما [3]“، وبهذا المثال الباشلاري عن قوانين العلم التي ينبغي تحديث النظر فيها دائما، نستبين أن العقل لابد له من التجدُّد و إعادة الهيكلة لأنه ليس من الحكمة أن يطمئن الإنسان لبلوغ كمال نظرية ما وهذه النظرية تحتمل جدلية الصدق والكذب.

وبهذا فالمقصود بالعقل التحليلي هو العقل المجزِّئ لِعناصر الكل مهما كان هذا الكل من حيث مصدره وصفته، إذ ما دام العقل مُقتدرا على صناعة التفكيك؛ فلا بأس بتطبيق ذلك على كل شيء قابل لذلك، وبمعنى آخر يصبح العقل رياضيا ومنطقيا وليس مجرد عقل خطابي وسفسطائي*.

ثانيا ــ المقصود بالابستمولوجيا الجديدة :

إن مصطلح الإبستمولوجيا يعود من حيث الجذر اللغوي إلى اللسان اليوناني، وبهذا يكون الحياد بين من يعتبرون استخدام المصطلح في العلم فقط، ومن يعتبرونه في الفلسفة، لكن هذا البحث سيفضي إلى الجمع بين استخدامات العلم والفلسفة معا [4]

فالإبستمولوجيا مصطلح كلاسيكي يعني نظرية المعرفة في مباحث الفلسفة العامة،  فقد صيغ من اللفظتين اليونانيتين، إبستيمي التي تعني علم أو معرفة، ولوغوس وتعني علم، نقد، نظرية، دراسة، وبهذا أضحت تعني الإبسمولوجيا في تركيبتها الدلالية، علم العلوم، أو نظرية العلوم، أو الدراسة النقدية للعلوم؛ وهذا ما لا يختلف كثيرا عن معناها الاصلي [5]

نظرية الإبسمولوجيا الجديدة إذن تقف على الدراسة النقدية لمختلف المناحي العلمية، أو بعبارة شمّالة، هي فلسفة جديدة تبحث في نقد وتقييم كل المعارف الإنسانية دون استثناء، وبهذا تكون هذه الإبستمولوجيا ثورة على تلك النظريات القديمة، والتي ضلت سائدة لقرون زمنية، على الأقل من الفلسفة اليونانية إلى غاية نهاية الأنساق الكبرى في الفلسفة الحديثة، دون تناسٍ لتطور الفلسفة الإسلامية، وعليه فالتجديد الطارئ خص الآليات ومقتضياتها الواقعية، فمادام العالم في صيرورة مستمرة في شتى ميادينه، فالإبستمولوجيا كناظم فكري للعلم والمعرفة بصورة كلية لا بد أن تتجدد ـ هي الأخرى ـ مع هذه الصيرورة.

لكن العمل الإبستمولوجي المتجلي خاصة في عمل الفيلسوف، يشترط له المنطق الكوني التوحيدي حسب رؤية أبي القاسم حاج حمد، فالمنهج الإبستمولوجي، بقدر ما هو مفيد على مستوى التفكيك هو نفسه الخطِر إذا لم يتّجه ويُتوج بالتركيب، ولا يتم التركيب إلا عبر وعي كوني مطلق يصدر عن الإله الأزلي، تقدست إرادته وتباركت مشيئته وتنزه أمره” [6]

فالتفكيك ــ كما تقدم ــ المفتقر إلى التركيب لا يوصل حسب حاج حمد إلى نتائج محمودة، وبالتالي لا يتسنى للمحلل ـ المفكك ـ المعاصر تقديم حلول صارمة لغرض بناء إبستمولوجيا جديدة بديلة، تساير مقتضيات الإنسان ككائن عالمي متجاوز لسلطة الزمان والمكان؛ ومتطلعا لاعتناق الغيب الذي هو كل واحد، وفي جدلية مستمرة مع الإنسان والطبيعة، وبكلام آخر إبستمولوجيا أبي القاسم، ينتقد بها الإبستمولوجيات السائدة من أحادية وثنائية، ويراها تجزيئية، و يدعو بذلك إلى إرساء منهجية مطلقة، أركانها، الغيب والانسان والطبيعة.

إن الإبستمولوجيا الجديدة التي يراها أبو القاسم تأخذ بمنطق التجاوز لكل الإبستمولوجيات السائدة، سواء أكانت وضعية كثورة الفيزياء المعاصرة على الفيزياء الكلاسيكية، وقد كان الاتصال بين التجربة والرياضيات ينمو في تضامن في الابستمولوجيا الباشلارية، حول ظاهرة جديدة، إذ ذّاك لا ينفك المنظّر يعدل في النظرية السائدة لجعلها قادرة على الاستيعاب للحدث الجديد [7]،  أو تقليدية كاعتماد المناهج القديمة البالية والمنتهية الصلاحية، وبالتالي الفاقدة لكل معانيها، وهذا بالضبط ما رفضه باشلار وأبو القاسم حاج حمد في إبستمولوجيتهما الاستيعابية و التجاوزية لما هو كان رائجا .

إنها رؤية توحيدية لعقل الإنسان في تعامله الدؤوب بين ثلاثية مطلقة، هي الغيب والإنسان والطبيعة، لكن هذه الممارسة لا تتأتى هكذا عبثا وصدفة، بل تنطلق أولا ـ وقبل كل شيء ــ من القرآن الكريم، الذي يمكننا أن نسمّيه الكون بالقوة، المقابل في حروفه وكلماته التامَّات الكون بالفعل، هذا الكون الذي خُلق منه ما خُلق ويُخلق ما يخلق وسيخلق منه ما سيخلق، تماما هو في بنائيته الجدُّ مُحكمة كالقرآن الكريم في دقة كلماته و ضبطها المتناهي في الدقة من الله العظيم .

إن هذه الإبستمولوجيا التي يجعلها أبو القاسم حاج حمد مدخلا حتميا للتجديد في الفكر الديني الإسلامي المعاصر، هي ذاتها الناقدة للمناهج السائدة؛يقول:”فمنهجنا ـ كما أوضحنا ــ يربط بين (القراءة الغيبية ) و (القراءة القلمية ) عبر مقومات الوعي الإنساني (السمع والبصر والفؤاد)، وصولا إلى جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، وهكذا ننظر إلى كل المجريات من خلال الغيب والإنسان والطبيعة” [8] وإلا فهي مجرد إضافة تراكمية لما قُدّم من قبل، وعليه فعمل المجدد بهذا المنطق التحديثي، لا بد أن ينطوي على التحليل كعصب أساسي في مشروعه الإبستمولوجي، ويقع هذا التحليل على النص القرآني، وبنفس اعتقاد عالم الطبيعة في مكنوناتها، والتنبؤ باستقراء ظواهرها للوقوف على سننها، كذلك المحلل لآيات التنزيل الكريم، يجب أن يعتقد في كل خطواته بِكَرميّة القرآن الكريم ومجيديته المطلقة، وإتباع مكنوناته، لاستقراء سنن آياته وتدبرها، ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ( محمد24).

فالحق علينا أن نسمي هذا العمل التجديدي بالمنطق التحليلي المتجاوِز للمنطق التفسيري السائد، وهنا نقطة البداية التي دعا إليها أبو القاسم، وظل مرابطا في سبيلها، وعليه سنتساءل عن تأطيراتها وهندستها المعرفية والمنطقية، وبكلام آخر ما هي ضوابط الإبستمولوجيا القاسمية؟

 


قائمة المصادر والمراجع:

 أ ـ مصادر أبي القاسم حاج حمد:

أبو القاسم حاج حمد: إبسمولوجية المعرفة الكونية، إسلامية المعرفة والمنهج، دار الهادي، 2004. 1ـ

أبو القاسم حاج حمد: الأزمة الفكرية والحضارية في الواقع العربي الراهن، دار الهادي، ط1، بيروت، 2004. 2 ـ

3 ـ أبو القاسم حاج حمد: العالمية الاسلامية الثانية ، جدلية الغيب والانسان والطبيعة، ط1، دار الهادي ، بغداد، 2004.

4ـ أبو القاسم حاج حمد: منهجية القرآن المعرفية، أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، دار الهادي، بغداد ، ط1، 2003.

أبو القاسم حاج حمد: تشريعات العائلة في الإسلام، تق وتع: محمد العاني، دار الساقي، ط1، بيروت، 2011. 5 ـ

ـ أبو القاسم حاج حمد: القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، دار الساقي، بيروت.

ب ـ مصادر ومراجع أخرى:

1 ـ الزواوي بغورة: الفلسفة واللغة، نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة، دار الطليعة، ط1، بيروت، 2005.

2 ـ حيدر حب الله: حجية السنة في الفكر الاسلامي، مؤسسة الانتشار العربي، ط1، بيروت، 2011.

3 ـ طه جابر العلواني: نحو منهجية معرفية قرآنية، دار الهادي، ط1، بيروت، 2004.

4 ـ طه جابر العلواني: الأزمة الفكرية ومناهج التغيير، دار الهادي، ط1، بيروت، 2003.

5 ـ طه جابر العلواني: الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الهادي، ط1، بيروت، 2003.

6 ـ طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، ط2، بيروت، 1997.

7 ـ محمد محمد داود: كمال اللغة القرآنية، دار المنار، القاهرة.

8 ـ محمد عابد الجابري: مدخل على فلسفة العلوم، مركز الدراسات الوحدة العربية، ط5، 2002.