ثالثا ــ ضوابط الإبستيمولوجيا التحليلية:

 

1 ـ الجمع بين القراءتين :

مشروع الإبستمولوجيا الاستيعابية والتجاوزية و لكي ينجح في التحليل، لا بد من احترام نزول الآيات وترتيبها، لأن ذلك سوف يساعد المحلل على توخي الدقة والضبط، مع إزالة منطق القدسية المستنبطة منذ زمن معين، وفي ظل ظروف معينة، أو مصلحة موضوعية، لا يعني أنها مقدسة في كل تفاصيلها[9]، لهذا كان لزاما بمكان من الانطلاق من الآية الأولى الموحى بها على النبي الخاتم والموقر ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ـ تعالى ـ (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)(العلق 21)، وهنا فقط ندرك، لماذا خاطب الله ـ تعالى ـ نبيه الأمّي بالفعل (اقرأ) الذي خاطب به ضمنيا أمته كلها، و في حال غياب القراءة فلا تحليل للقرآن يذكر، وتاليا لا حكمة منه تنتظر.

وهنا بالتحديد يكون منهج الجمع بين القراءتين مدخلا كليا لتأسيس قاعدة المفاهيم الكونية المطلقة والجامعة، أي القراءة الكلية، وعليه تكون القراءة الأولى بالله ( اقرأ باسم ربك) خالقا لكل شيء بحكمته، ومنطق هذه القراءة يبين الله ـ سبحانه ـ ربّا، رازقا، وتكون القراءة الثانية مع الله ( اقرأ وربك ) معلما بالقلم الموضوعي، إذن يتبين مع أبي القاسم أن القراءة الأولى متعالية مفارقة ( ترنسندنتالية)، وصولا إلى اللامتناهي، أما الثانية فهي قراءة نسبية وقوفا إلى المحددات لعالم الأكوان القريبة في منطق الزمان والمكان، وباختصار، عالم القراءة الأولى هو عالم الإرادة الإلهية*، والقراءة الثانية عالمها المشيئة الإلهية[10]

وهاهنا لا بد من التنبيه أن منطق الجمع ليس هو مجرد الربط بين القراءة الأولى في الكتاب الأول أو الوحي المنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقراءة الثانية في الكتاب الثاني أو الكون المشيَّأ؛ إن هذه المقاربة بين هاتين القراءتين هو هدم لأساس المنهج المرجو، رغم أن القرآن هو المعادل للوجود الكوني وحركته. إن هذا المنهج ـ حسب أبي القاسم ـ يُفضي إلى تبسيط لحقيقة المنهج المبتغى وتضييع له بذات الوقت[11] ، والقراءة المأمور الإنسان بها هي في الحقيقة قراءة باسم الله، ثم بمعيته ليتوصل إلى علم يمكن أن يُدوَّن بالقلم، ولابد أن تكون القراءة شاملة للكون المسطور في الكتاب، والكون المنثور في الوجود برمته[12].

إذن، القراءة الأولى ـ في منظور حاج حمد ـ تتضمن منطقيا واستيعابيا القراءة الثانية، وبالضرورة القراءة الثانية، لأن الله ـ تعالى ـ أنزل كلامه بشأنهما متتاليا، فالتتالي بينهما من الحتميات الإلهية التي يعلم حكمتها الله ـ سبحانه ـ لهذا أمرنا باكتشاف تلك الحكمة بالفعل الوحيوي القرآني “اِقرأ”، ولا شك أن فهم اللغة القرآنية مدخل أساسي للقدرة على التحليل، وممارسة القراءة الصحيحة، ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة العلاقة الوطيدة بين علم النحو وعلم المنطق، وقد أدرك الفلاسفة المسلمون القدامى والمعاصرون ما للغة من أهمية في البحث المنطقي والفلسفي[13]، كركيزتين للابستمولوجيا التحليلية للغة القرآنية.

وطالما أن العلاقة بين علم النحو وعلم المنطق من أهم الموضوعات التي كانت تشغل بال المناطقة والفلاسفة[14]، فإن هذا يدل على الحمولة المعرفية التي يحملها كل نص باعتباره بنية نحوية في الظاهر ومنطقية في الباطن، وكلما كان النص أبلغ كانت حكمة النحو والمنطق فيه بصورة أكمل، ولا أحد ينكر كمال نص القرآن، فهو إذ ذَّاك كامل النحو والمنطق كمال تحديه لباقي النصوص، ومن هنا ينطلق أبو القاسم حاج حمد.

ثم إن ما نشاهده في الحضارة العالمية المعاصرة، من تطور في المناهج المختلفة بالنظر إلى العلوم و المعارف التي يتوسل بها الإنسان، يبين تماما الحاجة الملحة للجمع بين القراءتين، لأن هذه العلوم الطبيعية والإنسانية، وبقدر ما قدمت للبشرية من وسائل وغايات، تبقى مُفتقرة لما يرفعها إلى مصاف الرؤية الكونية الجامعة بين وسائل الإنسان وغاياته المشروطتين بالتكامل الثلاثي، تُعطى فيه المنهجية القراءتية ـ إن صح الكلام ـ الحاوية لمنطق الإنسان الذي يحيا بين شرطيتين متكاملتين هما الغيب والطبيعة، وبصفة المطلق بالمطلق، وليس بصفة المطلق المقابل للنسبي. هذا ما يتخبط فيه الغرب المتقدم ماديا والمتخلف روحيا، دون ذكر لتخبط الشرق في استمرار الجدل حول كيفية التقدم.

يقرر أبو القاسم أن التجديد الإبستمولوجي، لا يتسنى لنا بعيدا عن منطق الاستيعاب والتجاوز، وبالتالي يجب علينا أن ننطلق من منطق تحليلي، وربما يكون التحليل الذي يدعو إليه أبو القاسم شيئا ممّا أشار إليه تيار الوضعية المنطقية في تحليل اللغة الاصطناعية الذي يدرس الشكل والصورة[15]، لإعادة النظر في جميع مسلمات اللغة التراثية، التي كنا نؤمن بها إيمانا تقليديا أعمى رفعها إلى درجة الوحي المقدس نفسه، بهذا فقط قد نكون قاربنا خطوة جديدة في تجديد التفكير الديني، وسعينا تاليا لإرساء منهجية إبستمولوجية، تقوم على التحليل والنقد والتجاوز، وليس البتّة التفسير والتقليد والتراكم.

2 ــ الرؤية التوحيدية المطلقة :

إن المنهج التحليلي الذي يتوسل به أبو القاسم حاج حمد، يضطلع من خلاله إلى التركيب، ولا أكثر من التأكيد على النجاح في التحليل إلا بالتتويج بالتركيب، أو في عبارة أخرى، لا معنى للتحليل إذا لم يكتمل تركيبا، وبذلك يصبح قوام التركيب وتمامه بمدى جدِّية التحليل ودقته الرياضية، وبهذا أكد أبو القاسم أن القرآن هو المصدر الكلي للمعرفة الكونية المطلقة، بوصفه الكتاب المهيمن والمعادل بوعيه الموضوعي الوجود الكوني وحركته، وتُعد حكمة الجمع بين القراءتين ـ كما تقدم ـ مؤشرا كافيا لاكتشاف جدلية الغيب والإنسان والطبيعة.[16]

إن هذه المنهجية السائرة بمنطق تضايُفي ( تحليل ــ تركيب )، والتي يجنح لها أبو القاسم في مشروعه الإبستمولوجي التجديدي، هي في الحقيقة نوع من الثورة على النماذج السائدة، التي فصلت بين المتصلات، ووصلت بين المنفصلات، فالرؤية التوحيدية عنده، إنما تُوحد بين الغيب كبعد مركزي عند أهل الأديان مثلا، والطبيعة كبعد مركزي عند العلمانيين كذلك، والإنسان كمرتبة وسطية بينهما، وهكذا تكتمل الجدليات الثلاث، والعمل بالفصل يفضي بهؤلاء إلى جدليات أحادية أو ثنائية، تُلغي في منطقها أحد تلك الجدليات التي أشرنا إليها، وبالتالي يبقى الإنسان تائها في غياهب النقص، واستمرار البحث، فجدل الطبيعة مضى فيه أنصاره وقوفا عند السنن والقوانين وتأسيس ما يدعى في عصرنا بالعلوم الطبيعية، أما الإنسان بجدله فيستند هو الآخر إلى علوم نفسية واجتماعية، فكيف يكون إذن الاتصال والتعامل مع جدل الغيب والقرآن[17]، يقول ـ تعالى ـ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) (الجن 26).

بعد هذه البيَّنة، لا مناص من توخي المنهج الكوني المطلق إلا بالرؤية التوحيدية لهذه الجدليات الثلاث، وليس بالتلفيق أو التوفيق كما هو معمول في بعض الفلسفات والتصورات العلمية، فقد قيل أن للغيب مجال القلب، وللعلم مجال العقل[18]. إن التعميم ليس نزعة ذاتية يتخذها المتدين المسلم ليُؤذِّن في الناس بالرؤية التوحيدية، “فمن السهل القول بأن القرآن صالح لكل زمان ومكان، بينما المطلوب هو إثبات ذلك موضوعيا، ومن داخل القرآن، وبما يدحض النظرة السكونية إلى آياته[19]“.

إنما التعميم هاهنا يقصد به العالمية الإسلامية الثانية التي أرادها الله بخاتم الأنبياء والمرسلين، وعليه كان لزاما على هذه العالمية أن تتماشى بمنطق الاستيعاب والتجاوز، الاستيعاب لكل ما مضى من سنن الأولين مع كتبهم السماوية، والتجاوز هو العمل على النقلة المسايرة لشرطيات الكتاب القرآني ومعادلته الكونية، وإلا فلماذا كان القرآن هو المهيمن؟ .

فهذه العالمية الثانية، لها من القدرة على استيعاب كل التواريخ الإنسانية من لدن آدم ـ عليه السلام ـ إلى يوم الناس هذا، وبهذا فالخطاب الإلهي الخاتم جاء مستوعبا لكل المستويات الإنسانية، بحيث شمل مستوى الأولين الذين قرؤوه بعيونهم وبمستوى معارفهم، وجاء مستوعبا لمستوانا، وبالتالي علينا أن نقرأه بعيوننا وبمستوى معارفنا، كما جاء مستوعبا لمستويات لمن سيأتي بعدنا[20]، و أن هذا المنطق يشتمل على قدرة التجاوز، أي التصفية لكل المضار و النظريات البالية المنتهية الصلاحية، أو تلك التي تبتعد عن المنطق العقلي لتبقى في فلَك الخرافات التي لا معنى يرجى منها، وكل هذا لا يحدث سوى بالقرآن ومن القرآن.


قائمة المصادر والمراجع:

9 ـ محمد شحرور: دليل القراءة المعاصرة للتنزيل، المنهج والمصطلحات، دار الساقي، ط1، بيروت، 2016.

10 ـ محمود محمد طه: الرسالة الثانية من الإسلام، ط4، أم درمان، السودان، 1971.

11 ـ محمود فهمي زيدان: في فلسفة اللغة، دار النهضة العربية، بيروت، 1985.

12 ـ عبد القادر بشتة: الابستمولوجيا، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1995.

13 ـ علي المؤمن: الإسلام والتجديد، دار الروضة، ط1، بيروت، 2000.

ج ـ المصادر المترجمة :

1 ـ باروخ برودي : قراءات في فلسفة العلوم ، تر: نجيب الحصاري، دار النهضة العربية ، بيروت، ط1، 1997.

2 ـ توشيهيكو ايزوتسو: الله والإنسان في القرآن، تر وتق: هلال محمد الجهاد، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت.

3 ـ غاستون باشلار: العقلانية التطبيقية، تر: بسام الهاشم، المؤسسة الجامعية للدراسات، ط1، بيروت، 1984.

4 ـ غاستون باشلار: تكوين العقل العلمي، تر: خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات، ط2، بيروت، 1982.

5 ـ فرنسيس فوكو ياما: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، تر:فؤاد شاهين وآخرون، مرا: مطاع الصفدي، مركز الانماء القومي، بيروت، 1993.

المعاجم:

1 ـ  الجرجاني: معجم التعريفات، تح ودرا: محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، مادة عقل

 الجرجاني: معجم التعريفات، تح ودرا: محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، مادة عقل ـ ص 128.[1]

 طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، ط2، بيروت، 1997، ص 18.[2]

 غاستون باشلار: تكوين العقل العلمي، تر: خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات، ط2، بيروت، 1982، ص49.[3]

 المقصود بالعقل الخطابي والسفسطائي عند ابن رشد هو العقل الذي ينطلق من مقدمات عامة ولا يبرهن عليها وهو من صنع العوام من الناس.(انظر ابن رشد: تلخيص السفسطة) *

 عبد القادر بشتة: الابستمولوجيا، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1995.ص:7[4]

 محمد عابد الجابري: مدخل على فلسفة العلوم، مركز الدراسات الوحدة العربية، ط5، 2002.ص:17.[5]

 محمد أبو القاسم حاج حمد: إبسمولوجية المعرفة الكونية، إسلامية المعرفة والمنهج، دار الهادي، 2004، ص: 205.[6]

 غاستون باشلار: العقلانية التطبيقية، تر: بسام الهاشم، المؤسسة الجامعية للدراسات، ط1، بيروت، 1984، ص28.[7]

 أبو القاسم حاج حمد: الأزمة الفكرية والحضارية في الواقع العربي الراهن، دار الهادي، ط1، بيروت، 2004، ص385.[8]

 علي المؤمن: الإسلام والتجديد، دار الروضة، ط1، بيروت، 2000، ص63.[9]

 يرى أبو القاسم أن العوالم ثلاثة: عالم الأمر الإلهي، وهو عالم الغيب المطلق، وعالم الإرادة الذي يمثل الحلقة الوسطى بين عالم الأمر وعالم المشيئة الشهودي.(انظر أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية) *

[10]  أبو القاسم حاج حمد:ابستمولوجيا المعرفة الكونية، مرجع سابق، ص: 206

[11]  المرجع نفسه : ص: 206

 [12] طه جابر العلواني: نحو منهجية معرفية قرآنية، دار الهادي، ط1، بيروت، 2004، ص169.

[13] محمود فهمي زيدان: في فلسفة اللغة، دار النهضة العربية، بيروت، 1985، ص153.

[14] المرجع نفسه: ص163.

[15]  الزواوي بغورة: الفلسفة واللغة، نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة، دار الطليعة، ط1، بيروت، 2005،ص202.

[16] أبو القاسم حاج حمد: العالمية الاسلامية الثانية ، جدلية الغيب والانسان والطبيعة، ط1، دار الهادي ، بغداد، 2004، ص:33.

 أبو القاسم حاج حمد: العالمية الإسلامية الثانية، مرجع سابق : ص 34.[17]

 أبو القاسم حاج حمد: العالمية الإسلامية الثانية، المرجع نفسه: ص 34.[18]

 أبو القاسم حاج حمد: القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، دار الساقي، بيروت، ص 141[19]

 محمد شحرور: دليل القراءة المعاصرة للتنزيل، المنهج والمصطلحات، دار الساقي، ط1، بيروت، 2016، ص18.[20]