ربما يحدث أن يقرأ الواحد منا روايةً ما، فإذا هو يجد فيها وصف حياةِ إنسانٍ مغاير تماماً للكاتب كما يعرفه القراء.. قد يكون “بطل” الرواية غنياً، والكاتب مفلساً، وقد يكون البطل رجلاً والكاتب امرأة، وقد يعيش البطل في الماضي السحيق أو المستقبل البعيد، والكاتب حي يرزق، ويأكل الطعام ويسدد الفواتير ويمشي في الأسواق.

ولكن الحقيقة هي أن كل من يكتب، فإنما يرسم ذاته على نحو معدّل! يرسم صورة محورةً من نفسه لكي لا تُعرف، أو يجسد أحلامه وقيمه في شخص من خيال، أو يجسد مخاوفه ومكرهاته في مجريات شخصية يختلقها، لكن في النهاية، الكاتب مختبئ في نصه ولا بد! يبدو أحياناً، ويختفي أحياناً.

يقول الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في اعترافٍ جميل: “أحسست بقصصي إحساسا عميقاً، بلغ إحساسي بها من العمق ما حملني على أن أحكيها، حسناً، كان ذلك باستخدام رموز غريبة لكي لا يكتشف الناس أنها جميعا أعمال سير ذاتية لا أكثر ولا أقل، كانت القصص عني أنا، عن تجارب مررت بها أنا”.

الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس
الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس

 

وكثير من الكتبة يقولون هذا عن أنفسهم، أو يقوله عنهم النقاد. وفي كل الأجوال؛ فإن جعل الذات موضوعاً للكتابة أمر جميلٌ.. سواءٌ أكان ذلك كتابةً إلى الذات أو كتابة عنها، وثمة ميزاتٌ تجعل الاتجاه إلى الداخل -الذات- مغرياً لكل كاتبٍ.

فالكتابة إلى الذات تضع الكاتب أمام تحدي إعادة اكتشاف نفسه، ونقل هذا الاكتشاف من الذهن -بما يكتنفه من بعض الغموض وعدم التحديد- إلى الورق، الذي يجسّد المرء أمام نفسه على هيئة كلمات.. وهذا التحدي يتيح للمرء أن يرى نسخة من نفسه أو لقطة لها كلما عاد فقرأ ما كتبه، والجميل في هذا اللون من الكتابة أنه يغدو -مع مرور الزمان- أثمن وأثمن، فهو كالتحفة الأثرية القديمة، وكالعود المعتّق، أو الخمر المعتقة! وليس قليلاً أن يرى المرء بعد سنواتٍ صورة لملامحه النفسية قد رسمها بقلمه.

والكتابة عن الذات وسيلةٌ لاكتشافها.. حيث إنها تعتبر عملية تجسير بين عقل المرء الواعي وعقله اللا واعي، وحين يسترسل المرء في الكتابة عن نفسه، سيجد قلمه يكتب بنفسه، ويجد أن عقله الباطن قد قرر الإفراج عن بعض مكنونه، والإفصاح عن بعض أسراره التي قد لا يعلمها الكاتب نفسه ولا يعيها.. حتى يعود فيقرأها ثانية فيتعجب إذ تتضح أمام عينيه نسخةٌ محدّثةٌ من نفسه! ومتعة هذا اللون من الكتابة لا تعدلها متعة!

كما أن الكتابة المنطلقة من الذاتِ تستند إلى نقطة قوة نادرة وفضيلة شبه منقرضة، فالكاتب الذي يقدم عليها ينطلق في الغالب من معرفة جيدة بنفسه، وهي معرفةٌ تجعله في مركز متقدم بالنسبة لأكثر الناس الذين يعيشون ضيوفاً على أنفسهم، لا يعرفون عنها إلا أقل القليل.

ومما يؤكد صعوبة هذا المسلك على كثير من الناس.. تردد بعض الكتاب البارعين حين الحديث عن أنفسهم، لأسباب مختلفة، من بينها: الخوف من الوصول إلى معرفة موهومة يلتبس فيها الصواب بالغلط..

يقول أحمد أمين في مقدمة كتابه :حياتي”: “العين لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق، أو بمحاولة للتجرد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه”.

الأديب المصري أحمد أمين

 

ومن يكتب عن ذاته يكتب في ذات الوقت عن كل من يشبهه من الناس، وسيدهشه أن هناك كثيرين جداً يشبهونه إلى حد يصعب تصديقه! ومن يكتب عن الذات، ويخاطب خلجات النفس، يمتلك بطاقة تخوله الدخول إلى قلوب الناس دون عوائق، لأنه يمس في وجدانهم أوتاراً لا يحسن الكثير من الناس أن يعزفوا بواسطتها.

وإلى هذا المعنى يشير زكي مبارك بقوله: “قال ألوف من الناس إنني كثير التحدث عن نفسي في مقالاتي، والجواب أنني أصور عواطف قرائي حين أتحدث عن نفسي، فأحوالي وأحوالهم مقتربة كل الاقتراب. . وأنا أعيش في زمن مقلقل، وهو نفس زمنهم، والخيرة فيما اختاره الله، فمن هذه القلقلة يصدر هذا الأدب.

الأديب والشاعر المصري زكي مبارك
الأديب والشاعر المصري زكي مبارك

 

وأنا أصور المجتمع الذي يقوم بناؤه من جانب ويتهدم من جوانب، وكما أعبر عن نفسي أعبر عن أنفس قرائي، فهم يلقون في حياتهم ما ألقاه من آمال وآلام، ولو كانوا يكتبون أو ينظمون لقالوا مثل الذي أقول”.

حتى أولئك الذين يختلفون عن الكاتب الذي يكتب منطلقاً من نفسه، ينجذبون إليه، لأنه يغذي فضولهم في استكشاف الآخرين من الداخل، ويوجد لديه -ولا بد- شيء ما.. يلامسهم، ويروق لهم.

ومن يعرف نفسه، سيعرف غيره، ويصبح مع مرور الزمن خبيراً في النفس الإنسانية يجيد الغوص في بحارها العميقة الغامضة، ويجيد تقريب الآخرين من أنفسهم بصورةٍ تعسر على الكثيرين.

والكتابة المنطلقة من النفس تتعدد مخرجاتها وتتنوع، فهناك الخواطر، وهناك السير الذاتية، وهناك صور أقل مباشرة للكتابة عن النفس، كالقصص والروايات التي يكتبها بعض الناس مستلهمين طوراً من أطوارهم.. أو منطلقين من تجربتهم الحياتية.. وقد قال بعض الظرفاء: إن في كل إنسان أديباً ناقصاً، والأديب الكامل هو إنسان يستطيع أن يقص حكايته على نحو شيق!