من المتطلبات الأساسية في بناء منهجية علمية راشدة لدرس التراث الإسلامي التخطيط المنهجي لإعداد الكوادر العلمية المؤهلة للبحث، فهذا التراث له طبيعته الخاصة: اللغوية والدلالية والزمانية والمكانية والثقافية والاجتماعية، كما أنه يرتبط بأكثر من فرع علمي وأصولي نشأ في ظل الازدهار العلمي للحضارة الإسلامي، وانطلاقًا من النظرة الشاملة للتراث فإنه لا يمكن عزل بعض جوانبه وفروعه- إلا على سبيل التخصص البحثي العميق- عن باقي العلوم والمعارف التي نشأ في ظلها وبالتزامن مع نشأتها وتطورها اعتقادًا في مبدأ وحدة المعرفة وتكاملها وترابط العلوم ووحدتها والذي مثل المبدأ الأساسي الذي انطلقت منه المعرفة والعلوم الإسلامية، حيث استمدت منطلقاتها وعناصر نشأتها من المنظومة التوحيدية ومبدأ التوحيد. وهذا يعنى تشابك العلوم في هذه المنظومة ووحدة نشأتها انطلاقًا من هذا المبدأ.
ويمكن في هذا الصدد أن نشير إلى ثلاثة متطلبات أساسية ينبغي تضمنها في إعداد الكوادر المؤهلة للبحث في التراث الإسلامي وهى كما يلي:
المتطلب الثقافي
من الملاحظ أن الأعداد العلمي في جامعتنا يفتقد في مراحل الدراسات العليا إلى الثقافة الإسلامية الأصيلة، بل هناك انفصال شبه تام بين الباحث وبين هذا النمط من الثقافة منذ دخوله الجامعة – بصفة عامة – باستثناء جامعة الأزهر بحكم فلسفتها التعليمية والتي تعتمد على مركزية العلوم الشرعية في المناهج الدراسية.
وهذا الغياب لدرس التراث يعني أن الباحث في جامعتنا العربية والإسلامية يمتلك ثقافة الدرس الفكري الغربي الذي نشأ عليه في مراحله الجامعية الأولى, بينما تفتقد شخصيته العلمية درس الثقافة الإسلامية -بصفة عامة- والتراث – بصفة خاصة- بما يجعله عاجزاً عن النظرة العلمية الصحيحة للبحث في التراث الإسلامي.
إن الإعداد العلمي لمعظم هيئات التدريس بالكليات والمعاهد العلمية في عالمنا العربي والإسلامي من أكبر العوامل التي تحول بينهم وبين الإقبال على الدراسات التراثية، يضاف إلى ذلك موقفهم من التراث الذي يتسم في معظمه بتبخيس هذا التراث.[1]
لذلك فإن المنهجية العلمية الراشدة المبتغاة ينبغي أن تتضمن في جوانبها التخطيط الجيد لأعداد الكوادر العلمية المؤهلة التي تجمع بين الثقافة المعاصرة والثقافة الإسلامية بمعناها الواسع والأصيل “إنه لكي يمكننا الاستفادة الكاملة من تراثنا الفكري فإن المشتغلين في هذا الميدان لابد لهم من الجمع بين الثقافة الإسلامية الواسعة بعلومها المختلفة وفروعها العديدة، حتى يمكنهم التعامل مع هذا التراث فهمًا وتحقيقًا واستيعابًا لكل قيمه ومعانيه ومدلولاته، وفى نفس الوقت فلابد لهم من اتصال وثيق بالفكر المعاصر، وبكل ما وصل إليه هذا الفكر من أبحاث وآراء ونظريات، حتى يمكنهم معالجة قضايا التراث بدون إغفال المنظور الفكري المعاصر.[2] لا سيما التطورات الحادثة في مجال المنهج وفلسفات العلوم التي تساعد في فهم جوانب كثيرة من أفكار التراث وتسكينها في المجالات العلمية المعاصرة.
وهذا المتطلب الثقافي يعنى بالقضاء على الثنائية المتوهمة في مجال التكوين الثقافي بين ما عرف بالثقافة العلمية المعاصرة، والثقافة الإسلامية، فالجمع بينهما مطلب ضروري لأي باحث في الدراسات التراثية المعاصرة أو الدراسات التراثية الإسلامية، فالمعاصرة والإسلامية ليسا نقيضين أو ثنائيتين كما يصورهما حال الواقع الأكاديمي والبحثي والذي ربما يرجع في أحد جوانبه إلى تباعد أصحاب الدرس المعرفي الإسلامي من ناحية وأصحاب الدرس المعاصر( الغربي) من ناحية أخرى في الواقع الأكاديمي، وهو ما يجب معالجته عند وضع منهجية علمية راشدة للدرس المعرفي للتراث الإسلامي.
المتطلب العلمي
يحتاج درس التراث التربوي الإسلامي إلى أدوات منهجية متعددة يجب أن يتمكن منها الباحث فيه, و يقترح أحد الباحثين[3] أن تتضمن مناهج إعداد الباحثين في التراث التربوي دراسة المناهج والعلوم التالية:
1 – مناهج البحث التربوي.
2 – التفسير والحديث.
3 – مناهج البحث التربوي عند المسلمين.
4 – الإطلاع على تطور الدراسات والبحوث في مجال التربية الإسلامية
5 – الفقه.
6 – التاريخ الإسلامي.
6 – الحضارة والنظم الإسلامية
كذلك فهناك جانبان أساسيان ينبغي أن يتمكن منهما دارس التراث التربوي الإسلامي وهما: الأول: الروح النقدية إزاء هذا التراث الفكري لاستخلاص الصالح المفيد منه، الصادر عن روح الإسلام وغاياته لا عن خرافات وأوهام. والثاني: التمكن من علوم العربية، ومهارات التعامل مع العلوم الشرعية ومراجعهما في الفقه وأصوله، وكافة صور التراث الفكري الإسلامي ولو بصورة عامة.
هذا بالإضافة إلى ضرورة تمكن الباحث في التراث التربوي الإسلامي من مهارات معرفية وعلمية أهمها:
1. التمكن من بعض لغات الأمم الإسلامية التي ساهمت في تراكم هذا التراث التربوي الضخم، مثل اللغة الفارسية والأردية والتركية، بالإضافة إلى اللغة العربية التي تعتبر الوعاء الأكبر لهذا التراث.
2. الإحاطة بالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية باعتبارها تمثل الإطار الفكري والفلسفي لحركة التراث التربوي بصفة خاصة وحركة الفكر التربوي الإسلامي بصفة عامة.
3. الإدراك المقارن للنموذجين التوحيدي والغربي والوقوف على ما بينهما من تباين واختلاف فيما يتعلق بالتصورات الأساسية والمفاهيم والبناءات الكلية المؤطرة لحركة التربية الغربية والإسلامية.
ينبغي أن يقف الباحث في التراث التربوي الإسلامي – أيضاً – على آخر ما وصل إليه الإنتاج العلمي في المجال التربوي في الوقت المعاصر؛ بالإضافة إلى الدرس الجيد للواقع العربي–الإسلامي ومتغيراته وبرامج وأفكار الإصلاح التي تموج بها تلك المجتمعات، وأهم الاحتياجات التربوية والاجتماعية والثقافية فيما يمكن أن نسميه بـ”فقه الواقع“، حتى لا ينعزل الباحث في التراث التربوي عن عصره، كما أن من الغايات الأساسية للدرس المنهجي للتراث التربوي هو ربط ذلك التراث بقضايا المجتمع المعاصر ومشكلاته للإسهام في تقديم حلول لها.
المتطلب الفكري
يقوم هذا المتطلب على تعميق الوعي بدور التراث في بناء الشخصية المسلمة, والبحث في هذا الدور الذي قام به التراث في التاريخ الإسلامي وفي الصناعة الحضارية لهذه الشخصية، بهدف اكتشاف العناصر الحية والفاعلة وتضمينها في البرامج التربوية والثقافية المعاصرة لبناء الشخصية العربية والإسلامية.
إن التراث التربوي يمثل منبعًا أصيلًا لحركة بناء الشخصية المسلمة وتطورها عبر الزمن, نظرًا لما يمثله من عناصر ثابتة وأصيلة في هذا البناء, والذي يرتبط بالهوية العقدية والثقافية, وما ترتبط به من أبعاد اجتماعية ونفسية ووجدانية وجمالية أخرى. ومن هذا المنطلق تبدو أهمية الوعي بدرس التراث التربوي الإسلامي في عدة جوانب منها:[4]
1. إن هذه الأفكار التربوية (المتضمنة في التراث) تعتبر أصولًا لممارسات ما زالت تمارس في مجال الحياة العامة كما هي في بعض مناحي التربية، وأي إضافة جديدة لا تأخذ التراث في اعتبارها تكون غير كاملة؛ بل إن مآلها بعيدًا أو قريبًا الرفض.
2. إن الكشف عن القديم هدف في حد ذاته؛ لأنه يكشف الواقع، ويضع أيدينا على جوانب القوة وجوانب الضعف التي أسهم في إيجادها.
3. إن دراسة فكرنا التربوي التراثي يبدو أكثر أهمية؛ لأنه مازال يعيش حيًا إن لم يكن في التربية السائدة، فهو موجود وجودًا أوليًا، ومن ثم فإن دراسته تبدو هكذا، لا إحياء له ولا مجرد تعلق به، ولكن إحساسًا بالحاضر وانتماء للمستقبل وزيادة الإحساس والوعي.
ومن ناحية أخرى فإن درسنا للتراث التربوي الإسلامي يساعد على تحقيق ما يلي:[5]
1. فهم المشكلات التربوية التي واجهت الإنسان المسلم في سياق تطوره الاجتماعي والتعرف على الطرق التي واجه بها هذه المشكلات في عصور مختلفة وأماكن مختلفة.
2. تذوق حقيقة أن أي حركة في التطور التاريخي للتعليم لا يمكن أن تفهم فهماً صحيحاً، وتقدر تقديراً دقيقاً من غير الرجوع إلى الدوافع القريبة والبعيدة التي أوجدتها في أول الأمر.
3. تذوق حقيقة أن أحوال الحضارة المختلفة ومستويات التعليم المتعددة، وأنواعه ودرجاته ومجالاته، تولد طرقاً مختلفة لمواجهة المشكلات التربوية وتقبل الاختلاف والتنوع الثقافي كأمر من طبيعة الأشياء، لا على أنه غير مرغوب فيه.
كما أن الدرس العلمي للتراث يعمل على التعرف على المبادئ والأسس المنهجية والمعرفية التي أبدعت هذا التراث, والظروف والمتغيرات التي أحاطت به, والسياقات المجتمعية التي أوجدته وتأثرت به, والوسائل والأدوات التي واجه بها هذا التراث المشكلات التربوية والمتغيرات المجتمعية التي صاحبت فترة وجوده ونشأته في حقبة ما، والخبرة التربوية التي تشكلت في هذه الحقبة ومداها ومضامينها وطرق الاستفادة منها في واقعنا التربوي المعاصر.
ويتيح لنا درس التراث التربوي الإسلامي –أيضا- استخدام بديل للأساليب والتصورات التربوية الغربية في العملية التعليمية والتربوية في مجتمعاتنا بما يتوافق مع ذاتيتها الثقافية والعقدية، واستخلاص المبادئ والأسس المعرفية الضرورية لهذه العملية ” بدلاً من الاكتفاء بمحاكاة وتطبيق الأساليب والمناهج والوسائل والطرائق الغربية في البحث أو إتباع أساليب التفكير الغربي بحذافيرها وتفاصيلها الدقيقة في دراسة مشكلات مجتمعنا العربي الإسلامي الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية على ما هو حادث الآن بالفعل.
كما يمكننا درس التراث التربوي من إعادة دراسة المشكلات والموضوعات والقضايا التي اهتمت بها الأعمال التراثية ولكن في ضوء الفكر المعاصر والمناهج الحديثة كوسيلة لتعميق فهم تلك الموضوعات القديمة ودراساتها من زوايا جديدة لم يتطرق لها المبدعون الأقدمون بما يساعد على تحديث هذا التراث بحيث يصبح جزءاً من الثقافة العربية المعاصرة ويشغل جانباً من تفكير الإنسان العربي المثقف في الوقت الحالي مع اعتبار بعض الأفكار الواردة في الأعمال التراثية بمثابة فروض تستحق اختبارها في ضوء الأوضاع الحديثة في العالم العربي. وعلى الباحث كذلك الوعي بأهم أهداف الدرس العلمي للتراث التربوي الإسلامي فيما يلي:
1. تكوين الوعي بحقيقة التراث التربوي الإسلامي ومكوناته وقضاياه ودوره في صنع الماضي والحاضر الإيجابي والسلبي منه على السواء. [6]
2. توضيح أبعاد خبرة الفكر التربوي التراثي في مواجهة مشكلات الواقع التربوي التي عاصرها فكراً وتطبيقاً حتى تتضح المتغيرات التي لعبت دورها في صياغة هذا الفكر وبلورته
3. تقريب التراث التربوي من واقع الناس وأفهامهم في ظل الحياة المعاصرة ويقتضى هذا أن يتوجه خطاب الدارسين إلى الجماهير كما يتوجه إلى الباحثين المتخصصين حتى يمكن كسر حلقة العزلة المفروضة على هذا التراث.
4. استخلاص المفاهيم والمدركات الفكرية التربوية الذاتية المقارنة أو المطابقة للمفاهيم والمدركات المستعملة والشائعة في الساحة الفكرية الإسلامية أو العالمية.[7]
5. الإسهام في إنماء الذات الفكرية والعلمية والتربوية المتميزة، وذلك بربطها ربطاً واعياً بتيار التاريخ الفكري والوجداني والروحي، وبمزيد من الاتصال والوصال العقلي، والتعرف الوجداني العاقل على ثقافتنا، وفكرنا وتربيتنا لتجديد فكرنا التربوي المعاصر.
6. تنقية التراث التربوي الإسلامي من الشوائب التي علقت به، وتأكيد الصحيح والصالح منه وبلورته ودمجه في الواقع المعاش.
7. إدراك العوامل المؤثرة في حركة التراث الذاتية. [8]
8. استخلاص نظرية تربوية إسلامية معاصرة في ضوء المعطيات الأساسية والجيد من التراث، وإقامة التطبيق العملي على هذا الأساس الذي تنطلق على أساسه وتبنى النظرية التربوية.[9]
[1] عبد الرحمن النقيب: “منهجية التعامل مع التراث التربوي الإسلامي”، ص21.
[2] المرجع السابق، ص44.
[3] المرجع السابق, ص45.
[4] على خليل أبو العنين: قراءة تربوية في فكر أبى الحسن البصري الماوردى, ص21.
[5]سعيد إسماعيل: “كيف نتعامل مع الموروث التربوي الإسلامي؟”, ص84.
([6]) أحمد أبو زيد: “التراث الحضاري وتحديث الثقافة، الكويت”، ص 407.
([7])على خليل: “منهجية التعامل مع التراث التربوي الإسلامي”، ، ص95.
([8])على خليل: قراءة تربوية في فكر أبى الحسن البصري الماوردى ، ص19.
([9])على خليل: أصول الفكر التربوي الحديث بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه التغريبي, ص103.