في زحمة المشكلات والفتن التي تحيط بالمسلم في هذا العصر، وضمور الوازع الديني، يظهر ارتماء الناس على القدر، حتى الأخطاء التي يرتكبها الأفراد مما يمكن تفاديها أو يملك فيها – على الأقل- حرية التصرف والاختيار بين العمل أو الترك، يلصقها بالقدر، وكأن الأمة أصيبت في مبادئها الأصلية، وإذا كان ضعفنا انتقل إلى جانب العقيدة ومبادئها فإن اللائق التنبيه على موضع الخطر، وبيان الضروري الذي يجب أن يهتم به المسلم في صلاح عقيدته ومنهاجه العملي.

وغاية هذا المقال توضيح منهاج المسلم في التعامل مع عقيدة القدر، وهو منهاج يتصف بالوسط الأعدل بين جانبي الجبر والاختيار، يميز بين المواقع التي يجوز الاحتجاج فيها بالقدر، والمواقع التي لا يجوز ذلك الاحتجاج، ويرجى أن يحقق الفهم المناسب الذي يريده الله سبحانه من الإنسان وخلقه، فالأصل في القدر سر الله في التكوين والتشريع[1].

ولبيان هذا الموضوع المهم في حياة المسلم المعاصر، نتذاكر الحديث المشهور الصحيح الذي ترجم عنه في عنوان المقال، وهو من رواية علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض، فقال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الجَنَّةِ»، قَالُوا: أَلاَ نَتَّكِلُ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ»، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الآيَةَ.

يبصرنا هذا الحديث بمفهوم القدر في الشريعة الإسلامية حيث أعطى الإنسان حرية العمل والاختيار، ولم يجعله جمادا لا حراك فيه، كما أنه لم يترك  له الاختيار المطلق دون حساب. وهنا بعض تفاصيل ذلك:

أولا  – ما هو الجبر والاختيار؟

يقصد بالجبر : إجبار الناس على فعل شيءٍ من غير إرادةٍ أو مشيئة لهم، ويرى الجَبريَّة في القديم أن الناس لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيِّروا مما هم فيه شيئًا، وإنما الأفعال لله سبحانه؛ فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقًا في جميع أفعالهم، فإذا آمن العبد أو كفر، فإن الإيمان أو الكفر الذي وقع منه، ليس فِعلَه إلا على سبيل المجاز، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه؛ كحركة الشجرة وزوال الشمس، فإن الفاعل الحقيقي لهذه الحركة هو الله[2].

ويترتب على هذا النظر سلب الإرادة من الإنسان وبالتالي الإدراك والقدرة على الفعل، وهو في جميع خطوات حياته لا يتصرف بإرادته وإنما تحركه قوة خاصة مسلطة عليه، وهذا يخالف الواقع قبل النص الشرعي.

والاختيار من جانب آخر هو إثبات حرية الإرادة والاختيار للإنسان في جميع تصرفاته، فإنه يمتلك القوات المعرفية والفعلية للقيام بأعماله الخاصة، ويقرر أسباب ذلك بنفسه دون أن يتدخل في شؤونه أحدٌ.

ثانيا – توسط عقيدة أهل السنة بين الجبر والاختيار

وإن عقيدة الإسلام من خلال نصوصه تبرهن على أن الإنسان في هذا الوجود يملك طاقات وقدرات وإمكانات تخوله على القيام بشؤونه الخاصة دون الحاجة إلى قوة تتسلط عليه، فإنه يختار في العادات أكلات مفضلة لديه، وملابس بنوعية وتفاصيل خاصة حسب رغباته، ونحو ذلك ولا يمكن أحد يدعي في هذه الحالات العادية أن اختياراته المختلفة أفرضت عليه رغم أنفه.

أما في الأمور الشرعية فإن الإنسان المكلف مسؤول عن تصرفاته سواء في طاعاته، ومعاملاته، وعلاقاته، وأي خلف أو تقصير وقع منه في أي واحد من هذه الأمور وهو بكامل وعيه فإنه يتحمله، ويوجه له اللوم والمساءلة، كما يستحق الأجر والثواب حسب نيته على هذه الشؤون فيما وقع منها حسب المقصد الشرعي.

ويمكن أن نمتثل في هذا المجال بقاعدة مقاصدية ذكرها الشاطبي وهو في صدد التأصيل للقصد الأول من وضع الشرائع الإسلامية، ودخول العباد تحت أحكام الشريعة باختيار وانقياد وليس بإجبار وإرغام، فقال: (المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا). فالقاعدة هنا تقوي مبدأ الدين أن العبد في هذا الكون مخلوق بكامل القوات، فهو قادر بكل حرية اختيارَ أي طريق يسلكها، وهو جاهز فعلا أن يتحمل مسؤوليات وتبعات اختياراته.

ثالثا – لماذا العناية بالقدر ؟

فإذا قررنا أن الإنسان مخير في جميع تصرفاته، وهو قادر ومدرك على تحمل مسؤولية اختياراته، ففيم الحديث عن القدر؟ ولماذا نعني بموضوع القدر ؟ بل ولم يتوجب علينا الإيمان بالقدر ؟

إن الإيمان بالقضاء والقدر هو من لوازم الإيمان بالله تعالى، فهو داخل ضمن نظام الإسلام التوحيدي الذي يثبت أحقية الله تعالى بالملك والحكم والتدبير المطلق في هذا الكون، وهذا التدبير منه ما كان ظاهرا خلال الدلائل الكونية والمشاهدات، ومنه ما كان جاريا في علم الله الغيبي لا يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب، والقدر كما سبق سر الله في الكون من قبيل التدبير الغيبي لهذا الكون، وهو عبارة عن تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته، وبعبارة ابن حجر: المراد أنّ الله – تعالى – علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثمّ أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته”.

ويشتمل على أمور تعتبر دلائل هذا التدبير الغيبي لهذا الكون ومافيه من الكائنات، وتمثل أركان الإيمان بالقدر لأنه لا يكتمل إيمان المسلم بدونها، وهي:

الأول: علم الله الشامل المحيط بكل الكائنات.

الثاني: كتابة الله في اللوح المحفوظ لكل ما هو كائن إلى يوم القيامة.

الثالث: مشيئة الله النافذة وقدرته التامة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

الرابع: خلقه تبارك وتعالى لكل موجود، لا شريك لله في خلقه.

رابعا – الاحتجاج بالقدر في المصائب دون المعايب

وفي إطار الحديث عن القدر فإن الإيمان به يقتضي الاحتجاج بالقدر، فإن الإنسان في جميع حركاته وسكناته، وتصرفاته وقراراته يتقلب في أقدار الله تعالى التي تشمل علمه الأزلي، وكتابته السابقة، ومشيئته النافذة في جميع الخلق، غير أن شبهة تقع في بعض الأفهام حين يظن أن القدر قوة سالبة لحريته واختياره ، فإذا وقعت منه زلة أو هفوة أو مخالفة يلجأ إلى القدر ليبرر خطأه ليفلت عن المساءلة وتحمل تبعات تصرفاته، والغريب أن يظهر ذلك بين المسلمين.

لكن الحديث النبوي الذي أشير إليه في العنوان يبين لنا عدة معان يجب أن تكرس في أذهاننا ونحن نتعامل مع هذا المفهوم وهي:

1-  أن الحديث حجة في أن أفعال العباد خلق لله تعالى، والإنسان مخير في جميع أفعاله، وهو دليل على إبطال قول أهل الجبر؛ لأن التيسير غير الجبر.

2- وجوب العمل والقيام به والنهي عن ترك العمل بحجة الاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره.

3- المسلم الحصيف لا يترك العمل بدعوى أنَّ قدر الله ماض فيه، بل الواجب عليه أن يأخذ الأمر بقوة، يعلم ما يطلبه الله، ويفكر فيما يفيده وينفعه، ثم يبذل قصارى جهده في القيام بأمر الله، وبالأخذ بالأسباب للأمور التي يظن أن فيها نفعه وصلاحه، فإذا لم يوفق فلا يقضي وقته بالتحسر والتأسف، وإنما يقول في هذا الموضع قدر الله وما شاء فعل.

4- القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعايب فعلى العبد أن يستسلم للقدر إذا أصابته مصيبة (الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) [البقرة: 156] ، أما المذنبون فليس لهم الاحتجاج بالقدر، بل الواجب عليهم أن يتوبوا ويستغفروا (فاصبر إنَّ وعد الله حق واستغفر لذنبك) [غافر: 55] فأرشد إلى الصبر في المصائب والاستغفار من الذنوب والمعايب.

5- “إن الإيمان بالقدر والاحتجاج به يأتي لمعالجة المشكل النفسي الذي يذهب الطاقة الإنسانية ويبددها في حال الفشل والإخفاق، ولا يكون مانعاً من العمل والإبداع في مقبل الزمان”[3].

6- الاحتجاج بالقدر على الذنب والمعصية التي يرتكبها الإنسان ينفع في موضع ويضر في موضع، أما الموضع الذي ينفع فيه الاحتجاج بالقدر على الذنب فهو إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمرا ولا نهيا ولا يبطل به شريعة بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة.

7- أما الموضع الذي يضر الاحتجاج بالقدر ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلا محرما أو يترك واجبا، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقا، ويرتكب باطلا كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: [لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا]، وقالوا: [لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ][4]

 


[1]  شرح العقيدة الطحاوية، أبو العز الحنفي، مؤسسة الرسالة، تحقيق التركي والأرناؤوط،  (1/320).

[2]  مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري، تحقيق نعيم زرزور، المكتبة العصرية، لبنان، الطبعة: الأولى، 1426هـ – 2005م، (1/299).

[3]  القضاء والقدر، عمر بن سليمان الأشقر، دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة: الثالثة عشر، 1425 هـ – 2005 م، صفحة (90).

[4]   شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة: 1398هـ/1978م، صفحة (18).