نستكمل هنا ما طرحناه للنقاش في مقالات سابقة, حول علاقة المعياري بالوضعي في المنظور التوحيدي، المساحة، وحدود التشابك ونقاط التماس والالتقاء، ونقاط التباين والافتراق ومساحة كلًا منهما.

ونشير هنا إلى أن تداخل المعياري والوضعي في المنظور التوحيدي يستدعي طرح فكرة إعادة تحرير العلاقة بينهما، وهذا بدوره يتطلب -ضمن ما يتطلب- تحرير مصطلح الوضعي بامتداداته المعرفية ومكوناته المفاهيمية التي تتمثل في ثلاثة مصطلحات هي: الموضوع، والوضعية، والموضوعية والوضعية، ونتناولها كما يلي:

1-الموضوع:ويعرف بأنه: المادة التي يبني عليها المتكلِم أو الكاتب كلامه[1]، وفي نظرية المعرفة يشغل “الموضوع” القطب المقابل للذات، في سجال إمكان المعرفة، ويطرح في ذك هذا السؤال: هل الذات قادرة على معرفة الموضوعات؟ وبالنسبة لطبيعة المعرفة يطرح السؤال: ما العلاقة بين الذات والموضوع، وتنقسم الإجابة إلى اتجاه واقعي وآخر مثالي وبالنسبة لأدوات أو مصادر المعرفة يطرح السؤال: بأية أدوات تعرف الذات الموضوع؟ بالعقل؟ أو الحس؟ أو الحدس[2].

وفي هذا المجال يمُدنا المنظور التوحيدي بتقارير ذات أوجه متعددة تؤكد على:

أ.إمكانية معرفة الوجود (الموضوع)، لأن الله لم يخلق الحياة عبثًا ولا لعبًا {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } [الأنبياء:16]، وأن عبادته التي كُلفنا بها وعمارة الكون تتطلب إمكانية معرفة الله، ومعرفة الكون وكل ما يحتويه أي معرفة الوجود كله.

ب.تأهل الذات المدركِة نفسيًا ووجدانيًا وعقليًا لهذا الإدراك، وذلك بما منحه الله من العقل العلم والحرية،

ج.تحول الإمكانية -إمكانية معرفة الوجود- إلى ضرورة من ضرورات نظرية المعرفة في المنظور التوحيدي (سيروا) (انظروا) (تفقهوا) (تعلموا) (تدبروا) فالمعرفة ليست ترفًا وليست من باب الكماليات الإنسانية، بل هي من باب الضرورات الواجبة للوجود الإنساني في سيره وكدحه الدنيوي إلى الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } [الانشقاق:6]. والكدح  هو العمل والسعيُ والكسبُ .

 2-الموضوعية: ولها دلالتان مشهورتان: الأولى: الدلالة الأخلاقية، وتعني: النزاهة في القصد، والبعد عن الهوى، والتجرد من العواطف الذاتية. والثانية: الدلالة المعرفية، وتعني متى كانت تمثل الواقع تعبيرًا عن الحقيقة. وكما قررت فلسفة العلم “فإن الحقيقة متغيرة ولا نهائية لأنها باختصار ليست هي الواقع وإنما هي ما يقرره العلماء عن هذا الواقع، لذا فإن حقائق العلم موقوتة لا تبقى كذلك إلا إلى حين”[3].

من ناحية: يؤكد المنظور التوحيدي على متطلبات الموضوعية الأخلاقية بشكل واضح، وفي ذلك ذم المعرفة القائمة على الظن فاقدة الدليل والتجربة، وذكر ذلك في تسع مواضع في القرآن الكريم ينهى ويذم الظن ويدعو إلى اجتنابه، ويرفض الحقيقة الواردة من خلاله اقرأ: [ النساء:157]، [الأنعام : 116]َ، [الأنعام : 148]، [يونس : 36]، [يونس : 66]، [الأحزاب : 10]، [الحجرات:112]، [النجم: 28/23].

وكذلك ذم الهوى وإتباعه -الممتلئ بالميل والعاطفة- وهو المناقض للحقيقة الموضوعية لأنه يؤدي إلى انحياز النتائج وبالتالي انحياز الأحكام وكذبها، وذكر ذلك في سبعة مواضع في الوحي اقرأ: [النساء:135 ]، [الأنعام:93]، [ص:26 ]، [فصلت: 17]، [ الأحقاف:20]، [النجم: 3]، [النازعات: 40].

وفي ذات الوقت يدعو الوحي إلى استخدام الأسباب الكاملة في الوصول إلى الحقيقة الموضوعية، وذلك بدعوة إلى البحث في أسباب الظواهر  للوصول إلى حقائقها اقرأ: [الكهف:85 /89 /92] .

ثم الدعوة إلى استخدام الحواس كاملة، فالسمع ورد في (11) موضوعًا, والبصر في (7) مواضع, وكذلك التكثيف القرآني حول السير والنظر والتأمل والفحص لا تحده حدود بطول النص القرآني وعمقه.

والحقيقة الواقعية (الموضوعية) ترتبط بثلاثة عناصر: الذات المدركِة، وأداة الإدراك، والزمان والمكان الخاص بهما. والحقيقة الواقعية بهذا المعنى متغيرة بتغير عناصرها سواء بالتطور أو التخلف. والحقيقة تختلف عن الحق في المنظور التوحيدي، فالحق واحد، ثابت، لا يتغير وهو الله تعالى (المطلق-المعياري) والذات غير مطالبة – كما أسلفنا- بإدراك كنهه ولكن الإيمان به عن طريق آثاره المادية في الكون. أما الحقيقة فمتغيرة ومتعددة وهو وصف {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }[الروم:7] في موضع تقرير، وهذا الظاهر هو الذي يحكم حركة الإنسان واتجاه خطواته ونشاطه في الدنيا، والذي يرتبط في حركته بمدى تطور قدرة الإنسان أو تخلفها عن استخدام ما وهبها الله من أدوات العقل ووسائل العلم وتطويرهما لصالح الحقيقة الواقعية واكتشافها في كل جوانبها.

وهذا ما توصل إليه عدد كبير (الجمهور) من الفلاسفة والعلماء في تحديده للحقيقة وإدراك أبعادها، فالحقيقة الموضوعية يمكن تعريفها بأنها “ما يُقبل عادة من المجموع، كما يقول رسل. أو هي “أفضل” ما يفكر فيه في زمان معين -كما يقول شيللر- ويرتبط ذلك التعريف الأخير بتقدم المعرفة العلمية، ويتصل بمعاني القيمة والاختيار”[4].

إن الوحي الذي يرفض الظن والهوى والانحياز ويرفض الأحكام بلا دليل، ويحفز إلى المعرفة القائمة على الدليل التجريبي والعقلي لا يمكنه أن يرفض في نفس الوقت الموضوعية بدلالاتها الأخلاقية والمعرفية لأنهما يحققان غايته، والشروط التي طرحها الوحي للوصول إلى المعرفة والحقيقة، هي شروط تراعي جوهر الموضوعية وإجراءاتها.

والحقيقة التي يصل إليها الإنسان عبر أدوات المعرفة والتجريب وكل ما يبتكره للتعامل مع المادة أيًا كان مجالها الطبيعة، الإنسان؛ هي معرفة جديرة بالاحترام والاتباع العقلي، حتى لو لم تكن تلك المعرفة نهائية أو مطلقة، لأنها بالأساس تخضع في تطورها لتطور قدرة الإنسان وتمكنه من اكتشاف القوانين والحقائق، وهذا الاكتشاف في تطور بتطور هذه القدرة لا محالة، وهذا هو أحد أسرار مبدئية التغير في الكون والحياة.

3-الوضعية: وهي منهجية تقوم على إدراك الأبعاد الواقعية في السلوك الإنساني في دراستها للظواهر الاجتماعية، أي تقوم بالبحث في كل ما هو قابل للإدراك. وينتقد “الباحثون الإسلاميون الوضعية في أنها تختزل الظواهر الاجتماعية في جانبها الواقعي وتعطيها دلالات واقعية وتستبعد عنها كل العناصر الغيبية التي تكون جزءًا جوهريًا في حقيقتها”[5]. وهذا الانتقاد ليس له ما يبرره في كل الأحوال إذ أن الظواهر الاجتماعية الواقعية يعطينا فيها المنظور التوحيدي مجالات غير محدودة في التعامل معها وبنفس أدوات الواقع المادية.

والحقيقة أن “اتباع سببًا” يجعلنا وضعيين إلى حد كبير في إدراك الظاهرة الاجتماعية وغيرها من أجل الوصول إلى الحقيقة بطبيعتها وخصائصها التي أوردناها سابقًا. إن موضوعات الغيب –أصلًا- لا تخضع لمثل أدوات هذه المناهج، ولكن موضوعات الإنسان والكون هي وحدها موضوع “الوضعية والواقعية”.

وكما أن على الباحث الغربي التحرر من المادية المفرطة التي يراها منشأ الوجود (وهذا ما ينبغي أن يكون النقد الحقيقي للوضعية بصورتها الغربية وليس على تداعياتها المنهجية والوسائلية) فعلى الباحثين الإسلاميين التحرر من نفي المادية والواقعية في الظواهر الكونية والإنسانية على وجه التحديد والمبالغة في ذلك.

يقول الشيخ محمد الغزالي إن الله تعالى قد أودع المادة سر الروح وطبعها بطابع خالقيته لتكون دليلًا لها وشاهدًا عليها، وهو بذلك يقدس المادة ولا يحقرها، ويفرض على المرء نوع الحضارة التي لا حِول عنها. فإذا أخذ المادة وحدها فقد أشقى نفسه، وإذا أخذ بالروح فهيهات أن يصل إليها بدون مادة، وهو بذلك عنصر تافه في الأرض، يورث نفسه الفقر والجهل وهوان الشأن، وإذا أخذ بما رسم الله له فقد أنصف نفسه وأدى الذي عليه له وللحياة، وتلك هي الحضارة.[6]

وهو ما تعبر عنه منى أبو الفضل بشكل آخر بقولها: في حالة النموذج الوسطي للثقافة [أي المنظور التوحيدي]، فإن آفاق وحدود المعرفة ذات الدلالة الاجتماعية تنبسط لتشمل الدنيا والآخرة، والمباشر والمحسوس، والمادي والروحي، والغيب والشهادة، وما يتعلق بما بين العالميْنِ. وبينما تتوقف حدود المسؤولية الإنسانية والأخلاقية في النموذج الثقافي الأفقي المتذبذب عند حدود الحياة الدنيا، فإنها في النموذج الثقافي الوسطي لا تقف عند ذلك، وإنما تضيف إليه حيث تصبح المسؤولية دنيوية وأخروية.[7]

نخلص في هذه المقولة إلى إن تحقق المنظور التوحيدي يتطلب:

  • ميدان للتجسيد ——-الواقع الطبيعي والاجتماعي
  • وسيلة للتجسيد——-الإنسان في واقعه المادي وتجسده الاجتماعي
  • أدوات تساعد على التجسيد—–العلم، المعرفة، الاجتهاد، العمل، الكسب، السعي إلخ
  • ظواهر للدرس والبحث——-الظواهر الاجتماعية.

وأخيرًا -هنا- فإن الباحث المسلم عليه بتكثيف دراساته وبحوثه نحو الظواهر الاجتماعية من خلال منظور وضعي واقعي، وبأدواته الملائمة لهذه الظواهر، سواء تلك التي اخترعها غيره، حتى يقوم هو بتطويرها وفقًا لرؤيته الشاملة الممتدة ما بين الغيب والشهود.

يتبع إن شاء الله..


[1] المعجم الوسيط.

[2] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية، مج1، ص802.

[3] المرجع السابق, 808.

[4] معنى زيادة: الموسوعة الفلسفية، ص804.

[5] محمد أمزيان: منهجية البحث الاجتماعي بين الموضوعية والمعيارية, ص 60.

[6] محمد الغزالي: كيف نفهم الإسلام, ص 62.

[7] منى أبوالفضل:النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل”، ص75.