في كتابه نقد العقل العلماني: دراسة مقارنة لفكر زيغمونت باومان وعبد الوهاب المسيري، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قدم الباحث حجاج أبو جبر دراسة مقارنة بين عبد الوهاب المسيري في نقده العقل العلماني وأسسه المعرفية في التراث الغربي، وزيغمونت باومان.
بحث الكتاب (سبعة فصول في 336 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في كيفية صوغ النماذج التفسيرية الرئيسة وتوظيفها في نقد هذا العقل والحداثة، حيث يتجلى التقاء الخطاب النقدي عند باومان (اليهودي) والمسيري (المسلم) في أنموذجين أساسيين: الحداثة الصلبة (العقلانية المادية) والحداثة السائلة (المادية اللاعقلانية).
كما سعى إلى استكشاف الخرائط الإدراكية للحداثة الغربية والعقل العلماني عند باومان والمسيري، لأن كلًّا منهما يرى الحداثة العلمانية رؤية معرفية شاملة لله والإنسان والطبيعة، ويستخدم النماذج التفسيرية والصور المجازية نفسها لكشف هذه الرؤية، وإن اختلفا في وصفات الخلاص من مأزق الحداثة.
نماذج ومجاز
في الفصل الأول، الخطاب الإسلامي والتجربة اليهودية، قال أبو جبر إن باومان والمسيري كرسا جهدهما النقدي، على الرغم من الاختلافات الثقافية والدينية والأيديولوجية بينهما، لكبح غرور العلمانية وكبرها، خصوصًا احتفاءها بعالم كوني متمركز حول الطبيعة، وبرؤية إبيستمولوجية للعلوم الطبيعية تتسم بتمركزها حول الإنسان. وبحسبه، يتضمن جهدهما النقدي دعوة جادة إلى تأسيس علم جديد تحت اسمين مختلفين، وإن كان الهدف واحدًا في الأغلب الأعم: “السوسيولوجيا النقدية” (باومان)، و”فقه التحيز” (المسيري)، وكلاهما يدعو إلى تأسيس هيرمينوطيقا أنطولوجية تتجاوز الثنائية الصلبة التي تقوم على التعارض بين الموضوعية والذاتية.
في الفصل الثاني، النماذج والمجاز، بحث أبو جبر في الأنموذج عند توماس كون وغراهام كينلوخ، فلتوماس كون الفضل في انتشار مصطلحين مهمين في الخطاب الأوروبي الغربي، هما “الأنموذج” و”تحول الأنموذج”، ويذهب كينلوخ إلى أنه من اليسير تتبع أنموذجين أساسيين في الفكر الغربي، هما الأنموذج العضوي، والأنموذج الراديكالي القائم على الصراع. كما تناول الباحث الأنموذج عند زيغمونت باومان الذي نأى بنفسه عن مصطلح “الأنموذج” ودلالاته السلبية، لكنه بقي يستخدم مصطلحات وعبارات مرادفة في الأغلب الأعم للدلالات الضمنية الإيجابية لمصطلح “الأنموذج” كما استخدمه كينلوخ والمسيري.
الأنموذج عند المسيري “أداة تحليلية تربط بين الذاتي والموضوعي. ومن ثم، يجمع التوصل إليها بين الملاحظة الإمبيريقية واللحظة الحدسية، وبين التراكم المعرفي والقفزة المعرفية، وبين الملاحظة الصارمة والتخيل الرحب، وبين الحياد والتعاطف، وبين الانفصال والاتصال”. وعرض الباحث للأنموذج عند إريك فوجيلين، فقال إن منهجه النقدي يقوم على التعامل مع الأنطولوجيا والإبيستمولوجيا على أنهما مترادفان، وعلى اللجوء إلى التعميم والتجريد من خلال فكرة “العامل المشترك”.
كن جريئًا
في الفصل الثالث، التنوير المتطرف، عرض أبو جبر لصورة التنوير المجازية، ودور مفكري التنوير، ومصطلح “الطبيعة” بوصفه شيفرة الحداثة العلمانية. وتحت عنوان “شعار التنوير: كن جريئًا في إعمال عقلك”، قال إن التنوير مرتبط بالعقلانية الديكارتية التي صارت تعني تأسيس معايير مثالية جوهرية عالمية للعلم والفن والحكم الجمالي، “ويمكن النظر إلى هذه المعايير باعتبارها تمثيلًا أنموذجيًّا لأسطورة بروميثيوس التي تحتفي بالاكتفاء الذاتي للقدرة الإنسانية، والسعي الحثيث إلى وضع الإنسان في مركز الكون، إيمانًا بقدرته على اكتشاف قوانين الطبيعة وعزمه الأكيد على تحقيق التقدم من دون الاستعانة بأي مصطلح ميتافيزيقي أو غائي”.
بحسب الباحث، تطلب عصر الحداثة صورة مجازية لوصف الواقع الجديد، فيسوق باومان صورة أهل البستنة في إشارة إلى الدور العلماني الحديث الخاص بالبستاني الذي يرمز إلى إصرار الإرادة الإنسانية على تحقيق الجنة في الأرض، ثم يضيف صورة مجازية أخرى، صورة أهل التشريع، التي تشكل فهمه للحداثة التأسيسية، قائلًا: “كان الفلاسفة والحكام في العصر الحديث أهل تشريع في المقام الأول؛ إذ وجدوا عالمًا من الفوضى، فتصدوا لترويضه واستبداله بعالم النظام.
أما المسيري فيختلف عن باومان، فيصف مفكري التنوير بعبارات “دعاة الاستنارة المظلمة”. وخلص الباحث إلى أن المسيري وباومان وجدا في الطبيعة مفهومًا ثقافيًّا أساسيًا، يشكل محتواه الفكري شيفرة الحداثة العلمانية، “وهذا يعني أنه لا يمكن فهم التنوير والعلمانية إلا إذا فُكت شيفرة الطبيعة”.
حلول وكمون
في الفصل الرابع، الحداثة الغنوصية، درس أبو جبر الأديان البديلة عند إريك فوجيلين، فهذا كان عاشقًا فكرة العلو الدينية التي تسبق الفكر الفلسفي، لكنه أضاف إليها أبعادًا فلسفية جعلت النقاد يسمونه “فيلسوف الحضور الإلهي” في عالم يحتفي بموت الإله. وهو يؤمن بأن فهمنا الحداثة يكتسب عمقًا جديدًا إذا استطعنا فهم الصراع النقدي المعاصر بين الأيديولوجيات الحديثة والمسيحية، من منطلق أنه اندلاع جديد لصراع قديم بين المسيحية وهرطقة الغنوص، واصفًا الحركات والأفكار التقدمية الليبرالية والوضعية والماركسية والتحليل النفسي والشيوعية والفاشية والاشتراكية القومية الألمانية بأنها غنوصية.
على الرغم من أنه يعي أن ظهور آلهة جديدة يرمي إلى صوغ رؤية طوباوية، “فإنه لم يتخلَّ عن إيمانه بأن اليوتوبيا قوة دينامية تساعدنا في تجاوز الواقع المؤلم للوضع الإنساني”. أما المسيري فوجد في الغنوصية أبرز تجليات الحلولية الكمونية ووحدة الوجود كلتيهما، وهما أيضًا رؤيتان لا تتسقان والرؤية التوحيدية الخالصة، قائلًا إن الغنوصية صدرت في البداية عن وحدة وجود روحية حتى القرن الثامن عشر، “وتحولت في ما بعد إلى وحدة وجود مادية في القبالاه وفلسفة سبينوزا وهيغل والعلمانية المادية الشاملة المعاصرة”، رافضًا الحركات القومية والأيديولوجية كلها باعتبارها تبديات للنزعة الحلولية الكمونية والنماذج الآلية والعضوية.
كائن مستباح
الفصل الخامس، عواقب الحداثة، نسب أبو جبر إلى باومان قوله إن إحدى العواقب الرئيسة الناجمة عن حركة التنوير وروح الحداثة تتمثل في ظهور “ثقافة المحظورات الكونية”. كتب: “ظهرت الحداثة كيانًا قوميًّا يهذب جنة الوطن، وصاحبها عودة مفهوم الكائن المستباح، وهو كائن يشير على مستوى المجاز إلى كل آخر غريب كل الغرابة حيث يمكن سلبه حقوق الإنسان كلها، بما في ذلك حق الوجود. وذهب باومان إلى أن الكائن المستباح آخر غريب ارتبط عادة بالتجسيد المطلق للحق السيادي المطلق في استبعاد مثل هذه الكائنات البشرية الغريبة من نطاق القوانين الإنسانية والإلهية، حيث يصبح الكائن المستباح وجودًا يمكن تدميره من دون التعرض للعقاب، وإن كان تدميره تعوزه أي دلالة دينية أو أخلاقية”.
سعى باومان إلى تعضيد تأويله عواقب الحداثة بتناول جماعات يهودية ذات نزعات حداثية، فرأى أنه يمكن الاستهانة بدلالة الهولوكوست لعلم الاجتماع إذا صوِّرت كأنها حدثت لليهود وحدهم، أو واقعة في التاريخ اليهودي وحده.
بحسب أبو جبر، أنموذج الجماعة الوظيفية عند المسيري صورة مجازية تقترب إلى حد كبير من صورتي الغرباء والمتشردين عند باومان، ويمكن تطبيق هذه الصورة المجازية الجديدة، كما يرى المسيري، على جماعات عدة في التاريخ (غجر أوروبا ومصر، التجار الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، مماليك مصر، ساموراي اليابان ماقبل الحداثة)، لكن الجماعات اليهودية هي الأنموذج الأصلي للجماعات الوظيفية عبر التاريخ.
منفتح؟ غير منفتح؟
في الفصل السادس، مآلات مابعد الحداثة، عزا الباحث عودة المفكرين إلى طرح مسألة العلو إلى سطوة الآلة وسيادة الدولة الشمولية الحديثة التي تهدد الفردية والحرية. وبرأيه، أضحت فلسفة مابعد الحداثة فرصة لانفتاح الأنساق المغلقة التي جاءت بها الحداثة العلمانية. فعلى الرغم من أن باومان وجد في فلسفة مابعد الحداثة فرصة يمكن من خلالها فتح الأنساق المغلقة التي أفرزتها الحداثة وتجاوز الطموحات الكونية للمفكرين بوصفهم أهل التشريع، فإنه أدرك مأزق مابعد الحداثة ومعضلاتها، ولا سيما نزوعها نحو التشكيك في الأسس والمرجعيات كلها.
بحسب أبو جبر، لم يقبل المسيري الخروج من مأزق الحداثة العلمانية من خلال تأسيس أخلاقيات بلا ميتافيزيقا أو بتأسيس أخلاقيات قائمة على ميتافيزيقا حلولية. وهو أكد أنه لم يعد بإمكان الحداثة العلمانية في مرحلة الصلابة في نهاية القرن التاسع عشر أن تتماسك، ووصلت تحولاتها الكامنة إلى مداها في النصف الثاني من القرن العشرين. كما لم يرَ المسيري في فلسفة مابعد الحداثة نسقًا منفتحًا، “فلا يعني ضياع المرجعيات والمراكز كلها في عالم مابعد الحداثة بالضرورة أن مابعد الحداثة نسق منفتح، ولا سيما أن مفاهيم مثل العلو والهوية والديمومة صارت موضة قديمة عفّى عليها الزمن. ورفض نظرية أن مابعد الحداثة صناعة يهودية ترمي إلى تفتيت ما هو صلب، رادًا هذا الاعتقاد الخطأ إلى تجربة الشتات وصورة اليهودي الضيف/المتجول الأبدي الذي يحلم بأرض الوعد.
احتفاء باللذة
في الفصل السابع والأخير، الحداثة العلمانية في مرحلة السيولة، قال الباحث إن باومان والمسيري يصفان الانتقال من الحداثة إلى مابعد الحداثة بأنه تحول كامن من الحداثة الصلبة أو العقلانية المادية الصلبة إلى الحداثة السائلة أو المادية اللاعقلانية السائلة. ففي المجتمعات الاستهلاكية السائلة، تتوارى مفاهيم جليلة مثل الذات و الهوية ويتصدر المشهد صورة الجسد، “بيد أن الاحتفاء بالجسد لم يعد يتمحور حول تكثيف الإنتاج والتراكم الرأسمالي في المواقع الصناعية أو الخدمة العسكرية في الجيش؛ إذ صار الجسد في عوالم التكاثر البيولوجي والتدخلات الطبية، كما يقول أنتوني غيدنز، ظاهرة اختيارات وخيارات”.
في مرحلة الحداثة الصلبة، كان الجنس من أبرز النواحي التي تجلت فيها السلطة الحديثة القائمة على التحكم والمراقبة. لكن الجنس لم يعد أداة لخلق بنى اجتماعية دائمة، بل صار أداة في خدمة التفتت المستمر.
وجد المسيري أن مشروع الحداثة بدأ بإعلان مركزية الإنسان وقدرته على التحكم بالطبيعة، “لكنه انتهى بإعلان موت الإنسان لمصالح مقولات غير إنسانية مثل الآلة والدولة والسوق والسلطة، أو لمصلحة مقولات أحادية البعد مثل الجسد والجنس واللذة”. كما وجد في الاحتفاء بالطاقة الجنسية نقطة تحول من الصلابة إلى السيولة في الحداثة، “فلم تعد اللذة الحسية حكرًا على جماعة أو طبقة معينة، بل صارت متاحة للجميع تحت مسمى ديمقراطية اللذة”.