ليست مصادفة ان ظهور الرأسمالية الحديثة تزامن مع ظهور الدولة القومية لتكون الأداة الجديدة لضمان بيئة مواتية تحفظ للرأسماليين مصالحهم في البحث عن الاسواق والمواد الخام والإستثمار الخارجي لينتهي ذلك كله عند تراكم الثروة في ايدي الطبقات الرأسمالية، ومن هنا كانت وحدات الرأسمالية(الدولة) هي الحارس لموضوعها(تراكم الثروة للرأسمالي).

 

الملاحظ ان الرأسمالية تنقلت في مراكزها او وحداتها من اسبانيا والبرتغال وهولندا الى فرنسا وبريطانيا والمانيا في مرحلة ثانية، ثم انتقلت بمركزها الى الولايات المتحدة واليابان، ويبدو انها تقف على عتبة الخروج نحو مراكز أخرى بشكل بطيء وتدريجي لا سيما نحو عالم أوسع من ” الدولة القومية”.

ذلك يعني ان الرأسمالية تضحي بوحداتها(الدولة) لصالح موضوعها( تراكم رأس المال او الثروة)، ويبدو ان آليات الانتقال تسير نحو وحدات “ما فوق الدولة” من منظمات دولية اقتصادية او عسكرية او سياسية حكومية او غير حكومية، ويكفي ملاحظة دور مجموعة بريتون وودز او الشركات العابرة للقوميات او الشركات الأمنية او مئات المنظمات غير الحكومية التي تحاول تحديد منظومة القيم الدولية الجديدة التي ستعمل الراسمالية في نطاقها، وهو ما يعزز قبضتها لمزيد من تراكم رأس المال.

وبدأنا نقرأ عن ظاهرة ” الأمراء الحُمر” في الصين والتي اصبح القطاع الخاص يشكل فيها قرابة 40% من اجمالي ناتجها الاقتصادي، وان 430 شركة أمريكية كبرى تعمل في الصين ، رفض 287 منها الاستجابة لمطالب الرئيس ترامب وقراراته بخصوص الحرب التجارية على الصين، وأن 25 شركة فقط أعربت عن موافقتها على قرارات ترامب، بينما الباقي يحاول البحث عن حل وسط، وهو ما يعني انفصال المال عن ” الدولة القومية”، بل ان النظم المحاسبية المعاصرة لم تعد قادرة على تحديد بالضبط حجم الناتج المحلي لكل دولة من الدول الكبرى بسبب هذا التداخل الكبير ، ويكفي ان نعلم ان أكبر 18 شركة أمريكية في الصين لها 158 مليار دولار معرضة للخطر من قرارات ترامب.

ويكفي ملاحظة ان في العالم حاليا 40 الف شركة متعددة الجنسية او عابرة للقوميات ولها أكثر من ربع مليون فرع في العالم ، وان من بين أكبر 500 شركة متعددة الجنسية عام 1962 كان هناك 300 شركة متعددة الجنسية مراكز ادارتها في الولايات المتحدة ، وانحفض العدد عام 1999 الى ما مجموعه 180 شركة، وحاليا هو 111 شركة.، وهو ما يعزز انفصال راس المال عن الدولة القومية، ويجعل الترابط العضوي(الاقتصاد والتقنية) يتفوق على الترابط الآلي(القومي والديني..الخ) طبقا لنظرية دوركهايم.

وإذا اخذنا أعلى 100 اقتصاد في العالم سنجد أن 51 منها هي شركات متعددة الجنسية( أي متجاوزة للقومية) بينما 49 هي اقتصاديات دول، ومبيعات اعلى 200 شركة متعددة الجنسية(أي متحللة من القومية) يفوق مجموع مبيعات 182(مائة واثنان وثمانون) دولة، بل إن ثلث التجارة العالمية كلها يتم بين فروع الشركات متعددة الجنسية ذاتها، وهو ما يعزز سيطرة البعد الاقتصادي والتقني كجزء مركزي فيه على حساب الآيديولوجيات القديمة ، فالصين لم تعد اشتراكية الا في الحزب، وفييتنام(هوشي منه والجنرال جياب) تعد من الدول الاعلى في معدلات الفروق في الدخل(مقياسGini)، والولايات المتحدة تقف على رأس قائمة الدول الصناعية في تآكل الطبقة الوسطى، وتركيا المسلمة تتبنى العلمانية في دستورها وتذوب شوقا لقبولها في الاتحاد الاوروبي …الخ.

لقد أدت العولمة للدخول في المرحلة الثالثة من بنية النظام الدولي، فقد كانت الامبراطوريات الدينية( االامبراطورية المسيحية الرومانية، او الاسلامية او امبراطورية اسوكا..الخ) هي المرحلة الاولى لنظام دولي(نظام دولي وليس الدول)، ثم جاءت الدولة القومية في المرحلة الثانية بعد أن أدت التطورات العلمية لزعزعة اسس الامبراطوريات الدينية ورافقها السعي للوصول للمواد الخام والاسواق مع نشأة الراسمالية المعاصرة.

وها نحن نقف على اعتاب(أؤكد على اعتاب) الانتقال الثالث من الدولة القومية الى النظام المعولم الذي سينطوي على تناقضات وصراعات داخلية ، لكننا نقف على اعتاب ” نهاية العلاقات الدولية” والتحول نحو علاقات داخلية محلية في نظام دولي واحد سيتم تقسيم وحداته لا على اسس دينية او قومية بل حسب وظائفه الاقتصادية في اطار معولم.

إن ما نراه من تلبُكات في احشاء النظام الدولي المعاصر هو تعبير عن استعداد لتقيؤ الاسس القديمة والعمل على اسس جديدة لها فضائلها ولها اوزارها، لكن الأمر سيسير بقدر من غير الخطية(non-linear ) وبقدر من مظاهر المغص في احشاء النظام ….وبألف ربما طبعا.