تناولنا في مقالة سابقةمفهوم المرض الاجتماعي وعلاقته بالمرض العضوي وطرق التكوين المتشابهة, وموقف القرآن من مفهوم المرض وأقسامه (عضوي واجتماعي). ونتناول هنا بعض من الظواهر المَرَضية التي يرصدها القرآن, ويكشف خطورتها الاجتماعية على أداء المجتمع لوظائفه أو حتى على بقاء المجتمع ووجوده.

الإصلاح الدعيِّ

أولى هذه الظواهر المَرَضية  التي نتعرض لها هنا  هي ظاهرة “الإصلاح الدعيِّ”, ومن الجدير بالذكر أن “مفهوم “الإصلاح” في القرآن واحد من مفاهيم المنظومة المفتاحية الجامعة بين الأفكار والأشخاص والأشياء، وهو مقابل لمفهوم “الإفساد”، وقد يدعي المفسد أنه مصلح، مما يجعلنا أمام نوعين من مفاهيم الإصلاح: الإصلاح الدعيّ، والإصلاح التوحيدي. الأول ضال ومراوغ واسم على غير مسمى، والثاني وحده الجدير باسمه، وهو مفتاح الاستقامة، والتمكين، والعزة، والتزكية، والعمران في الدنيا، والفوز في الدنيا والآخرة”[1].

إن الإصلاح الدعيِّ – بما هو عليه من ادعاء يخالف حقيقته- هو تشويه لحقيقة مفهوم “الإصلاح” الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم على عدة أركان أصيلة ووظائف معتبرة هي: التزكية والعمران والهداية والعدل والتوحيد. بينما “الإصلاح الدعيِّ” يقوم على أركان الإفساد: التدسية، والتخريب، والضلال، والظلم، والشرك.

ويصف القرآن هذا النوع من “الإصلاح المريض” أو الظاهرة الإصلاحية المَرَضية بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]. ثم يرد عليهم القرآن مؤكدًا فساد ذلك الإصلاح ودَعِيَته {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12].

فالمفسد يدعيّ الإصلاح “قولًا” بينما “حالًا” و”فعلًا” يقوم بكل ما يُضيع حدود الله وحقوق الناس في الأرض ويسعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والقيم والحقيقة ويقيد الحريات ويكنز المال ويصرفه في غير طرقه ويظلم الناس ويعمل بعمل العاصين المنكرين للغيب والحساب.

إن سيادة هذه الآفة المَـَرضية في المجتمع هو سيادة لحالة من الضبابية الذهنية والقلبية لأفراد هذا المجتمع وأجياله القادمة, حيث يسود الادعاء الكاذب والباطل في مقابل تغييب الحقيقة والحق, فتُبنى قواعد المجتمع على الاضطراب والبناء الرخو, فيسهل أمام أية موجة من الفيروسات مهاجمته لأن البناء في ذاته ضعيف, لا يمتلك القوة على المواجهة والصمود, فتفقد كرات الدم الحمراء والبيضاء قدرتها على العمل.

النفاق: تغييب الحقيقة الاجتماعية

النفاق هو إدعاء في الظاهر على خلاف الباطن, أو إظهار المرء خلاف ما يبطن. ورغم أن القرآن الكريم أورد حالات النفاق في غير موضع منه، إلا أنه – ولخطورة هذا المرض الاجتماعي- أورد سورة كاملة أسماها {الْمُنَافِقُونَ}[2]، حدَّ القرآنُ لتلك الفئة التي تحمل هذا “المرض الاجتماعي” وصفًا ورسمًا, هذه الفئة التي تصيب المجتمع في مكمن “الحقيقة الاجتماعية”. ذلك {بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} وأنهم{ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } أي اتخذوا إعلان الإيمان (الكاذب) وقاية لهم في المجتمع يحميهم من إظهار حقيقتهم (النفاق). فهم يتلونون بما يحميهم: الكفر تارة , والإيمان الكاذب تارة أخرى..بحسب ما تقضتيه مصلحتهم العاجلة المادية المنحطة.

إن أول مخاطر “النفاق” وبروز ظاهرة “الْمُنَافِقُونَ” هو تراجع الحقيقة الاجتماعية، واستبدالها بالزيف والكذب اللذان يسيطران على المجتمع حال تعرضه لهذا المرض الخطير. والأكثر خطورة هو تقلد هذه الفئة “المريضة بالنفاق” والكذب والمخادعة مواضع ومناصب في توجيه وإرشاد الجماعة الاجتماعية في المجتمع.

إن “المنافقين” و”النفاق” أشد خطورة على المجتمع من الأعداء، بل هو أكثر الأعداء أثرًا فيه؛ لأنه يأتي من داخل الجسد الاجتماعي، والإصابة تكون ذاتية من أعضاء ذلك الجسد وليست من فيروس خارجي عنه يسهل معرفته والحذر منه والاستعداد والتهيئة لمقاومته حتى لو بعد حين – عن طريق العلاج والأدوية المناسبة- إلا أن مرض “النفاق” أشبه بمرض السرطان: حيث تتحول خلايا الجسد الحميدة – أو هكذا يجب أن تكون- إلى خلايا خبيثة وسرعان ما تنشر خبثها في باقي الجسد الاجتماعي حتى يهلك ويموت وذلك لو لم يتم استئصال تلك الخلايا التي خبثت, للمحافظة على باقي الجسد سليمًا. وهذا يتوقف على سرعة الاكتشاف وقرار الاستئصال.

والواقع أن “المنافقين” يختلطون بالمجتمع وبين ثناياه ويكون من الصعب اكتشافهم بسهولة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } [ المنافقون:4]. فوسائلهم في إشاعة الكذب بين المجتمع وطريقتهم لها وقعها في النفوس بين العامة والخاصة على السواء. ومع ذلك فإن باطن هؤلاء “المنافقين” ضعيف جدًا لدرجة أنهم {يحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ }. أي يحسبون كل صوت ضمير في المجتمع كأنه حرب عليهم وكشف لأمرهم؛ وذلك لجبنهم وهلعهم وضُعفهم.

والمجتمع يحتاج – للوقاية من هذا المرض وتلك الآفة المُهلِكة – إلى جهاز “اكتشاف” لهؤلاء المنافين {فَاحْذَرْهُمْ} لتحذير المجتمع منهم ومن أبواقهم الكاذبة وحركتهم الفاسدة بين أعضاء المجتمع. وعمل هذا الجهاز هو بيان الحقيقة الاجتماعية ردًا على الزيف والكذب الذي يروج له هؤلاء “الْمُنَافِقُونَ “، وكذلك بيان مواطن: “المرض” أي اكتشاف المنافقين مشخصين وبيانهم لباقي الجسد الاجتماعي الذي يستنفر لمواجهتهم.

التفرق الاجتماعي {كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ}

إن الأصل في الجسد الاجتماعي هو الترابط والتكامل بين أعضائه، فالمجتمعات تحتكم في سيرها لمبدئية “التعاون” بين طبقات وفئات. فتحقيق أهداف المجتمع – المشتركة بين أعضائه – لا يمكنها أن تتم بغير هذا المبدأ  القرآني {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. وهذا التعاون هو المبدأ الطبيعي الذي نشأ مع تكون الجماعات الاجتماعية الأولى في تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة : الأسرة, القبيلة، القرية، المدينة، الدولة. وإن تخلي المجتمع عن هذه المبدئية “التعاون” يعني أنه سيفشل في تحقيق أهدافه المشتركة في التاريخ.

و”التفرق” أو “الفرقة” هو المرض الاجتماعي الأكثر تأثيرًا سلبًا على مبدئية “التعاون الاجتماعي”، ويظهر هذا المرض عندما يحاول أفراد المجتمع أو طبقاته البحث عن أهداف خاصة بهم تبلغ بهم مبلغ الاستقلالية عن “المجتمع” ويشعر كل فرد أو كل “فئة” أو كل “طبقة” بالتضخم في مقابل المجتمع الذي يتقزم في هذه الحالة. ويبحث كل من أولئك عن الوسائل التي يحقق بها أهدافه الخاصة حتى لو تجاوزت أو تعارضت أو تخالفت مع أهداف المجتمع الأساسية والعامة والوجودية.

إن كيان المجتمع يتحلل تحللًا كليًا، عندما يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية… ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد. وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية… فالعلاقات الاجتماعية تفسد عندما تصاب الذوات بالتضخم فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبًا أو مستحيلًا، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين تبرر المواقف الفردية والخيارات الشخصية[3].

ويصف القرآن تلك الحالة بقوله {كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ} [ الروم :32], وهذه الآفة الاجتماعية من مخاطرها وتوابعها التاريخية عرقلة السير الحضاري للمجتمع الذي يخطها في سبيل تحقيق أهدافه الوجودية والتطورية في ذات الوقت. ويتجه المجتمع بفئاته وطبقاته إلى التفكير الغريزي لإشباع احتياجاته الخاصة, وتتحلل أشكال الروابط الاجتماعية وضوابطها الحاكمة.

ويمكن أن نُعدد أشكال التفرق الاجتماعي وأبعاد ذلك المرض فيما يلي:

– التفرق في المرجعيات الفكرية الدافعة للسلوك الاجتماعي.

– تباين المثل العليا في المجتمع التي تنشد ناحيتها حركة السلوك والوعي الجمعي.

– التناقض في الوسائل المستخدمة للحركة الاجتماعية.

– التعارض في الغايات الاجتماعية بين الأفراد والطبقات والنظم والمؤسسات.

 

تخسير”الميزان” الاجتماعي

يُحذر القرآن من آفة أخرى وهي: تخسير “الميزان الاجتماعي”, وذلك في عدة مواضع منها: {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[ الرحمن:9]. {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [ الشعراء:181] وميزان المجتمع هو “المعيار” الذي يزن به أفراده حركتهم الاجتماعية, لذلك فإن دعوة القرآن إلى كل أفراد المجتمع الذين يمسكون بهذا الميزان إلى تحقيق العدالة والمساواة والحق فيه { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد:25]. فإن الشرائع الهادية توضح وتبين الموازين, ولكن الناس أي المجتمع أفراده وجماعاته هم الذين يتولون إقامة تلك الموازيين وتطبيقها في حياتهم.

والميزان من: العدل والثبات والمساواة. ولغة هو “الآلة التي توزن بها الأشياء”[4].  والتخسير في الميزان هو: التطفيف، والتطفيف هو كل ما يقابل: العدل والمساواة والثبات في معايير الوزن الاجتماعي.

ومن معايير “الميزان الاجتماعي” التي يخطها الوحي على سبيل المثال: ميزان العلم: { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].   وهو سؤال استنكاري يستبطن أنه لا يستوي في ميزان الله، ومن ثم في ميزان المجتمع “العلم والجهل” و”العالمِ والجاهل” و”الأمة العالِمة والأمة الجاهلة” و”الفرد العالِم والفرد الجاهل”. فهذا ميزان سننيُّ، يُعلي من قدر العلم “القيمة”، والفرد العالِم والأمة العالِمة في مقابل من لا يعلمون. وطبيعة هذه المعرفة: طبيعة إلهية (أي معرفة الله) وبشرية (معرفة النفس) وكونية (معرفة العالم) فهذه معارف ثلاث ترتبط ببعضها ارتباطًا ترجح ممن يحملها بحقها. ويعرف دلالاتها وحججها, وقد عد القرآن ما يقرب من عشرة موازين اجتماعية – نفصل لها لاحقًا في مقالة منفصلة-.

إن التطفيف في الميزان الاجتماعي ينتج عنه حالة من تحلل المعايير جملة: معايير القبول والرفض، والنجاح والفشل، والعلم والجهل، والعمل واللصوصية، والأمانة والخيانة، والصدق والكذب. أي يفقد المجتمع كل آليات الضبط الاجتماعي بما يؤهل لحالة من الفوضى التامة أو الغثاء بوصف النبوة الراشدة.


[1] السيد عمر: مداخل الإصلاح في الأمة: جدالات الديني السياسي، حولية: أمتي في العالم، 2006، ص77.

[2] وهي السورة رقم (63) بالمصحف الشريف.

[3] مالك بن نبي: ميلاد مجتمع, ص 43.

[4] المعجم الوسيط، ص1030.