القياس مصطلح أصولي، أي أن علماء أصول الفقه إذا أطلقوه، فإنهم يقصدون به معنى معينا خاصا اصطلحوا عليه فيما بينهم.

لكن كلمة ( القياس) كلمة تطلق على ألسنة الناس جميعا، ويقصد بها الناس إلحاق شيء بشيء لوجود شبه بينهما.

الفارق كبير جدا بين القياس الأصولي، والقياس بمعناه العام عند الناس.

فالقياس عند الأصوليين هو: مساواة فرع لأصل في علة حكمه”

وهو عمل مركب وصعب، صعب في دراسته، وصعب في إجراءات تطبيقه.

ولذلك تواضع علماء الأصول على أن باب ( العلة) أصعب أبواب أصول الفقه، والعلة مبحث من مباحث القياس !

قياس الشبه

وهنا يظهر سؤال : ما سبب وعرة القياس الأصولي، وصعوبته دراسة وتطبيقا؟ أليس كل الناس يستخدم القياس في حياته، فيلحق الشبيه بالشبيه، ويعطيه حكمه؟

والجواب : أن القياس بهذا المعنى الدارج يسمى عند الأصوليين ( قياس الشبه) وهو قياس باطل أصوليا وتاريخيا؛ ولذلك أطال الأصوليين في شروط القياس لضبط القياس الصحيح حتى لا يختلط به قياس الشبه الباطل.

تعريف قياس الشبه :

قياس الشبه هو: ” الجمع بين أمرين لاشتراكهما في  نوع من الشبه”

أما بطلانه تاريخيا، فإن القرآن ذكر عدة نماذج من قياس الشبه التي يقوم بها عوام الناس، فتبين من هذه النماذج  جميعا أنها  أخطأت الحقيقة ، كما تبين أن  قياس الشبه باب يلج منه أهل الباطل الذين يريدون أن يلبسوا باطلهم ثوب الحق.

أبشر يهدوننا

من هذه النماذج التي ذكرها القرآن، ذلك القياس الذي كان سببا في إعراض كثير من الناس عن دعوة الرسل عليهم السلام، فقد ذكر القرآن عن سبب إعراضهم أنهم قالوا لرسولهم: {ما نراك إلا بشرا مثلنا} [هود: 27] فاعتبروا صورة مجرد الآدمية وشبه المجانسة فيها. ثم توصلوا من خلال قياس الشبه أن حكم أحد الشبيهين حكم الآخر؛ فكأنهم يقولون : نحن بشر وأنتم بشر، وكما لا نكون نحن رسلا، فكذلك أنتم، فإذا تساوينا في هذا الشبه فأنتم مثلنا لا مزية لكم علينا.

يقول ابن القيم ما معناه :  وهذا من أبطل القياس؛ فإن الواقع ينبئ عن تخصيص وتفضيل بعض الأنواع على البعض الآخر، فمراكز الناس الاجتماعية والمادية تجعل بعضهم شريفا نبيلا وبعضهم دنيا خفيضا، وبعضهم مرءوسا وبعضهم رئيسا، وبعضهم ملكا وبعضه سوقة، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك فقال :{أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون} [الزخرف: 32] .

وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم: {إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده} [إبراهيم: 11] وأجاب الله سبحانه عنه بقوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] وكذلك قوله سبحانه: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} [المؤمنون: 33] {ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون} [المؤمنون: 34] فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب، وهذا مجرد قياس شبه وجمع صوري، ونظير هذا قوله: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا} [التغابن: 6].

إن يسرق فقد سرق أخ له

النموذج الثاني فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السلام، حينما قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم : {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} [يوسف: 77]

يقول ابن القيم :

لم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف، فقالوا: هذا مقيس على أخيه، بينهما شبه من وجوه عديدة، وذاك قد سرق فكذلك هذا، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ، والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، وهو قياس فاسد، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كانت حقا، ولا دليل على التساوي فيها؛ فيكون الجمع لنوع شبه خال عن العلة ودليلها.

إنما البيع مثل الربا

ومن هذا قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري، أن المرابي يطلب زيادة في مقابل الوقت والزمن، وكذلك بائع التقسيط والأجل إنما يطلب زيادة في مقابل الوقت والزمن، إذن فيكون هذا مثل ذاك، فإذا أبحتم البيع فلتبيحوا الربا، وذلك قولهم فيما حكاه القرآن عنهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [البقرة: 275].

ما قتل الله وما قتلتم

لمَّا حرم الله الميتة، قال المشركون : ما قتل ربكم لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم بأيديكم تأكلونه، فقاسوا إزهاق الروح في الميتة على إزهاق الروح في الذبيحة، فالميتة التي تموت حتف نفسها، قد أزهق الله روحها، والذبيحة أنتم تزهقون روحها بالسكين، فلماذا تستبيحون ما أزهقت أيديكم وتتركون ما أزهقه الله!

قياس الشبه وفقه العوام

على ما بالقياس من صعوبة في الدراسة والتطبيق إلا أنه أكثر أدلة التشريع استخداما على ألسنة العوام، فتجد الشخص العامي إذا علم حكما دينيا، قرأه، أو سمعه، تجده يقيس عليه عشرات المسائل في عشرات المواقف، ويُفرِّع عليه ويُخَرِّج عشرات المسائل لمجرد وجود شبه بين المسألة التي علمها والمسألة الجديدة الحادثة!

الشرط الجزائي

فإذا بلغه مثلا أن الشرط الجزائي جائز عقابا على عدم تنفيذ العقود بعد إبرامها، تجده يقيس عليها جواز الشرط الجزائي على عدم الالتزام في دفع أقساط بيع التقسيط، أو دفع الديون بصفة عامة؛ لمجرد وجود شبه بين عدم الالتزام في الصورة الأولى، وعدم الالتزام في الصورة الثانية، ولا يدري أن الصورة الثانية من الربا الحرام، ولا يدري أن هناك فرقا بين عدم الالتزام بإنفاذ العقد وعدم الالتزام بدفع المال!

لا دخان بلا نار

كثيرا ما نسمع في تسويغ قبول الشائعات المثل السائر : لا دخان بلا نار ! فيميل أكثر الناس إلى تصديق الشائعات وقبولها تحت وطأة هذا المثل، فيميلون إلى تصديق التهمة ولو كان المتهم معروفا بالنزاهة والعفة.

وهم في ذلك مخطئون تمام الخطأ؛ لأن قياس الشائعة على الدخان قياس خاطئ ، فالدخان جسم ثقيل يزكم الأنوف ويقذي العيون ويخنق الحناجر، فإذا وجد الدخان كان دليلا على وجود النار حتى لو لم نكن نرى النار بأعيننا فحسبنا ما نلاقيه من وجود الدخان.

لكن الكلمات التي تطلقها الألسنة أنّى لها أن تشبه الدخان أو تقاس عليه، الدخان حقيقة واقعة، لكن الكلمات المطلقة دعاوى مرسلة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» متفق عليه.

وصدق الله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [النور: 15]

ولذلك نص علماؤنا على أنه لا يجوز للعامي أن يفتي نفسه في واقعة اليوم بفتوى الأمس مهما بدا بينهما من تقارب وشبه، يقول النووي :” وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها، ثم وقعت له فيلزمه السؤال ثانيا على الأصح، إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفيه السؤال الأول للمشقة. [آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، النووي (ص: 43)]