لا يعرف الباحث خلافاً في تفسير قوله تعالى” نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا“. من معانيها أن الرزق والمهنة مقدّرٌ بقسمةٍ إلهية، لا علاقة لذلك بجد الإنسان وذكائه، ولا معايير ثابتة في ذلك يمكن اتباعها لتحقيق المأرب، فالأمر مشيئة إلهية، وهي أمور -في الفكر الإسلامي– ليس منوطاً بأسس علم الاقتصاد ومبادئ فن إدارة الأعمال، أو بدورات وتدريبات التنمية البشرية. والأمر ليس شرطا متعلقٌ بوضع خطةٍ: قريبة أو متوسطة أو بعيدة المدى، ولا بوجود الرؤية والرسالة والهدف والاستراتيجيات فالتقييم والمراجعة.

وعليه، فإن الرزق والمهنة وحالة الإنسان من علم وجهل ودرجةٍ علمية منحةٌ إلهية لا غير. فالمهندس لا بدّ أن يكون مهندسا، والطبيب لا يمكن إلا أن يكون طبيباً، والمحامي ليس له خيار إلا أن يسير وفق قدره المسطور، وقُل الأمر نفسه في الفلّاح والتاجر والفنان والرياضي.. وهلم جرّا. بل إن كل الطرق والأسباب التي تؤدي إلى تحقيق المهنة التي جعلت من نصيب الشخص وقسّمت له؛ لا بدّ أن يمر بها، فهي جزء من معيشته المكتوبة. إذ لو قدّر لزيدٍ من الناس أن يكون مهندساً فلا ريب أن كل ما يجعله مهندسا سيكون ميسوراً له، وهكذا في كل المهن الأخرى.

قد يقال فلماذا السعي والكدّ والجهد وقد قسّمت الأرزاق والمهن؟ وجوابه أن هذا النشاط والسعي كذلك مقسوم، ولا يمكن إلا سلوكه، كما في الحديث: “كل مُيسر لما خُلق له” جواباً لــ “أفلا نتكل؟!”. والمطلوب الرضا؛ فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط، ولا يأتيه من الرزق إلا ما كتب له، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.

ما مضى حقيقة قرآنية، أو بالأحرى تفصيل لما أُجمِل من حقيقة قرآنية، والتباين في القسمة لا يدلّ على أفضلية مطلقة، بل هذا أفضل من جهة والآخر من جهات، وسبب ذلك هو الابتلاء. وهكذا فإن كل ما قيل أعلاه دائر حول آية، أتت جوابا لاعتراض المشركين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرها كثيرة جدا في القرآن الكريم.

أما عن أقوال المفسرين في بيان الآية ” نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا” فهي كما يلي:

1. “نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا.. كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا ملكًا، وهذا مملوكًا.. فتلقاه ضعيف الحيلة، عي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، سليط اللسان، وهو مقتور عليه..، كما قسم بينهم صورهم وأخلاقهم تبارك ربنا وتعالى.” تفسير الطبري.

2. “نحن نتصرف في خلقنا كما نريد، بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة والحجة في ذلك.. فاوت –تعالى- بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة.. أي: فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق، والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وله الحكمة في ذلك. تفسير ابن كثير.

3. ” فجعلنا هذا غنيًا وهذا فقيرًا وهذا ملكًا وهذا مملوكًا، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا.” تفسير البغوي.

4. “أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة والضعف والعلم والجهل والحذاقة والبلاهة والشهرة والخمول.. نرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً وفهماً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجهل الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تنفتح عليه أبواب الدنيا، وكل شيء خطر بباله ودار في خياله فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السبب جهد الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال، فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيباً، وأن الأجهل الأخس أوفر نصيباً، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام، كما قال تعالى. وقال الشافعي رحمه الله تعالى:

ومن الدليل على القضاء وكونه   # # بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له” تفسير الفخر الرازي.

5. { أهم يقسمون رحمة ربك } النبوة { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } فجعلنا بعضهم غنيا وبعضهمم فقيرا { ورفعنا بعضهم } بالغنى { فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم } الغني { بعضا } الفقير { سخريا } مسخرا في العمل له بالأجرة. تفسير الجلالين.

6. “أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد، فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا مالكاً وهذا مملوكاً، وهذا قوياً وهذا ضعيفاً. ثم إن أحداً من الخلق لم يقدر على تغيير حُكمنا ولا على الخروج عن قضائنا. فإذا عجزوا عن الاعتراض في حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها وذلتها؛ فكيف يقدرون على الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض عبادنا بمنصب النبوة والرسالة؟! والمعنى كما فضلنا بعضهم على بعض كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا” تفسير الخازن.

7. “فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، بحسب حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوة والرسالة، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى”.تفسير السعدي.

8. “وهو الذي قسم بين العباد معيشتهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وإذا كان لأحد نعمة من مال أو جاه أو مجد، أو غير ذلك، فهذا ليس من قدرات البشر أو من ذواتهم، ولكنه نعمة من الله.. وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل منكم السادة والعبيد، ويجعل منكم الأغنياء والفقراء، وذلك في أمور الدنيا، فإن كنتم تريدون أن تُقسموا أمور الدين، فاقسموا أولاً معايشكم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الذي قسمها بينكم، وحياتكم في الدنيا تتبع قوانين الأسباب، ومن السهل عليكم أن تقسموها بدلاً من أن تأتوا لتقسموا رحمة الله التي هي حق لله سبحانه وتعالى وحده…

فكيف يطمعون في أنْ يختاروا هم وسائل الرحمة، ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، فجعلنا هذا غنياً، وهذا فقيراً، وهذا قوياً، وهذا ضعيفاً، فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها، فهل يريدون أنْ يتحكموا في مسائل الآخرة وفي رحمة الله يوجِّهونها حسب اختيارهم؟!!” تفسير الشعراوي.

أخيرا قد ينجح قومٌ دون أن يعلموا بوجود أشهر الكتب المؤلفة في التنمية البشرية، من مثل: “أيقظ المارد الذي بداخلك” “والعادات السبع للناس الأكثر فعالية” “الأب الغني والأب الفقير” “ونجاحك بيدك” “فكر وتصبح غنيا” “أغنى رجل في بابل” و”كيف تخطط لحياتك”، و”مفتاح النجاح”. على أنه ثمة آخرين قرأوا هذه الكتب ولم يكن النجاح حليفهم. فالأمر قدر؛ وقد كان ولازال “سر الله المكتوم”. وإن ميلاد مصطلحات: “أفعال الله” “أفعال العباد” “العدل” “التحسين والتقبيح” “الصلاح والأصلح” القدرية”، الجبرية” المعتزلة” “الخير والشر” في الفكر الإسلامي؛ نتيجة محاولة ربط القدر بمسائل أخرى.