حاجة الأمم والحضارات إلى قادة عظام تضاهي حاجة الطفل إلى من يرعاه ويربيه، فالأمم لا تنهض ذاتيا، ولكنها نتاج رؤية وتضحيات قادة عظام استطاعوا أن يعوا إمكاناتها المادية والبشرية وأن يعرفوا كيف يوجهون تلك الطاقات البشرية الهائلة نحو أهدافهم الكبرى، فخميرة التغيير التي تكمن في الإنسان لا تؤتي أكلها إلا إذا وجدت القائد الذي يعرف كيف يستنبت فيها مشروعه الحضاري.
وقد اهتم المفكرون قديما وحديثا بالقيادة والقادة، وناقشوا صفات وميزات كل واحد منهما، ومن بين أولئك المفكرين الطبيب والمؤرخ وعالم الحضارة الفرنسي غوستاف لوبون (7مايو 1841 – 13 ديسمبر 1931)، وتتميز رؤية حول القائد والقيادة بقدر كبير من العمق، وقد قسم في كتابه (روح الاجتماع) القادة إلى نوعين:
أ ـ القادة العاديون: ويرى لوبون أن أكثر الذين يتحدث عنهم التاريخ باعتبارهم قادة هم من هذا الصنف، ويصفهم بأنهم “قوالون سفسطائيون يتملقون الجمهور ويسعون نحو منافعهم الذاتية ويقنعون السفلة من الناس، وهؤلاء قد يحصلون بعض النفوذ ولكنه سريع الزوال، فليس لبصماتهم تلك القوة التي تنقش ذكراهم في جدار السنين”.
وسأحاول تحليل هذه الصفات التي وسمهم بها:
-قوالون سفسطائيون: أي أن تأثيرهم قائم على الكلمة التي لا تتضمخ بعطر الإنجاز، فهم كثيروا القول والسفسطة ولكنهم قليلوا الإنجاز، ولذلك فتأثيرهم مربوط بوجودهم بين الجماهير، لأن أثر الكلمات التي لا يسندها فعل قائلها لا يلبث أن يتلاشى سريعا.
-يسعوون نحو منافعهم الذاتية: ولا يعني الأمر هنا أنهم ليست لديهم أهداف نبيلة، ولكنهم يجمعون في سعيهم بين نية الاكتساب ونية الاحتساب، والقيادي إذا كان صاحب همة مزدوجة لم تمتلك روحه تلك السطوة القيادية التي تجعل الجماهير تتعلق به وتتأثر به، فهم:
-يتملقون الجماهير ويقنعون السفلة من الناس: وتملق الجماهير يقع بأدوات كثيرة منها التحميس بالخطب الرنانة والكلام المعسول، ومنها إعطاء الوعود الكاذبة بأن شيئا سيتغير وأن غدا سيصبح أكثر إزهارا ونماء.
هذا النمط من القادة الذي يسميه لوبون “القادة العاديون” لا يتركون بصماتهم منقوشة في جدار السنين، بل يتركون أنفسهم فقط ليسجل التاريخ إنجازاتهم وأدوارهم التي قاموا بها، ولكنها لا ترقى إلى المستوى الثاني حيث:
ب ـ القادة الحقيقيون: وهم أصحاب الاعتقاد الصادق والإيمان الذي لا يتزعزع وهم الذين تمكنوا من نفوس الجماعات وحركوها وحركوا معها التاريخ، إنهم منقوشون في جدار الزمن لا تبليهم الأيام، ويصفهم لوبون فيقول:”.. إنهم لم يتمكنوا من خلب العقول واجتذاب الأرواح إلا بعد أن سكروا بخمر المذهب الذي اعتقدوه. وبذلك توصلوا إلى توليد تلك القوة الهائلة في النفوس، وهي التصديق الذي يجعل المرء عبدا لخياله”.
وقد منح لوبون هذا النمط من القادة صفة واحدة، لكنها صفة ولادة، يمكن أن تنبثق منها كل الفضائل النفسية، تلك الصفة هي “الإيمان الكامل” بالفكرة التي يدعون لها، ويعبر عنه لوبون بالسُّكر فيقول: “إنهم لم يتمكنوا من خلب العقول واجتذاب الأرواح إلا بعد أن سكروا بخمر المذهب الذي اعتقدوه”، إنه التماهي مع الفكرة والمشروع الذي يحمله القائد، ذلك التماهي الذي يجتذب لا إراديا أرواح الجماهير ويخلب عقولها، إنها سطوة الإنجاز، وأعْظِمْ بها سطوة.
هذا السكر بخمر الفكرة هو الذي عبر عنه سيد قطب رحمه الله بـ”الاقتيات”، في قوله: “إن كل فكرة عاشت قد اقتات قلب إنسان”، هذا الاقتيات الذي يجعل دم ولحم القائد ممزوجين بالفكرة التي يدعو لها، هذا الاقتيات أو السكر -بتعبير لوبون- هو الذي أدى بهم إلى “توليد تلك القوة الهائلة في النفوس”.
القادة الحقيقيون إذن يلبسون الجماهير أفكارهم فينطلق كل واحد منهم بهمة القائد، سطوتهم على الأرواح، تلك السطوة التي تجعل الإنسان ينسى ذاته في سبيل القضية والمبدأ، وهو ما عبر عنه لوبون بقوله: ” التصديق الذي يجعل المرء عبدا لخياله”، أما القادة العاديون فتأثيرهم على النفوس، تأثير عاطفي محدود الصلاحية والتأثير، لا يلبث أن يتلاشى، يحتاج القائد معه إلى أن يظل منتصبا أمام جماهيره يلذعها بكلماته، أما الأول فقد يموت وتظل أفكاره تتحرك لأنه بذرها بقوة هائلة في أرواح جماهيره.