أَمَّا السلطانُ، فهو الصالح نَجم الدين أيوب بن الملك الكامل الأول، آخر السلاطين المجاهدين من بَني أيوب، حكم مصر منذ سنة 637هـ = 1239م، ثم ضم إليها دمشق في سنة 643هـ = 1245م. ومات في شعبان سنة 647هـ = 1249م وهو مرابطٌ بالمنصورة قبالة صليبيي الحملة السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا.
وصل أخوه الأصغر الملك العادل الثاني إلى كرسي عرش مصر وهو في العشرين من عمره، وذلك بعد موت الكامل الأول سنة 635هـ = 1237م، وقد أجمع المؤرخون المعاصرون على أن العادل الثاني كان مشغولًا باللهو واللعب، واتخذ لنفسه بطانةً يساعدونه على ما هو بصدده من اللهو واللعب، فأبعد أهلَ الرأي والمعرفة، ولم يكنْ فيه صرامةٌ وحُسنُ سياسةٍ يضبط بها الجُند، فقدَّم الأراذل وأخَّر الأكابر. وكان من خطته أن يقبض على أخيه الصالح نجم الدين؛ ليخلو له الجوِّ، مع أن نجم الدين كان هو أهلُ المُلْك.
بعد أن حكم العادل الثاني مصرَ سنتين وشهورًا، دارت الدائرة عليه؛ إذ قبض أخوه الصالح نجم الدين عليه في ذي القعدة سنة 637هـ = 1239م، وظل بسجن قلعة الجبل قريبًا من ثماني سنين حتَّى خُنق بمحبسه في شوال سنة 645هـ = 1247م.
وقد وصف جمال الدين بن وَاصِل السلطانَ الصالح نجم الدين أيوب بأنه كان ملكًا مهيبًا، عزيزَ النفس، حييًّا، عفيفًا، طاهرَ اللسان والذيل، شديدَ الوقار، كثيرَ الصمت، وكان مماليكه يهابونه؛ فكان إذا خرج وشاهدوا صورته يرعدون خوفًا منه، ولا يبقى أحدٌ منهم يجسر أن يتحدث مع أحدٍ، ومع ذلك كان لا يكاد يرفع طرفَه إلى محادثه؛ حياءً منه، ولم يُسمَع منه قَطُّ في شتيمته لغلمانه لفظٌ فيه فحشٌ، ولا ينطق حال غضبه بكلمةٍ قبيحةٍ قَطُّ، وأكثر ما يقول إذا شتم: “يا متخلف”.
ومع هيبته، كان يحب أهل الفضل والدين، فيغدق عليهم الأموال، ويحسن إليهم، إلا أنه كان قليلَ المخالطة لهم ولغيرهم؛ لمحبته العزلة والانفراد.
وأَمَّا العابدُ، فهو الشيخ الصالح أبو الغيث مُفرِّج بن مُوفَّق بن عبد الله الدَّمَامينِيّ الحبشيّ المتوفي سنة 648هـ = 1250م، وهو من بلدة دَمَامين (تُسمَّى الآن المُفرِّجيَّة؛ نسبةً إلى هذا العابد المدفون بها) على مقربةٍ من مدينة قُوص بقنا، ذكر صلاح الدين الصَّفَدِيّ في “نَكْت الهِمْيَان” أن الشيخ مُفرِّجًا عُمِّر، وبلغ نحوًا من تسعين سنةً، وكُفَّ بصرُه بأخرةٍ، وقد كان ذا تعبُّدٍ ونُسكٍ. ومن أشهر أقواله: “مَنْ تكلَّمَ في شيءٍ لا يصِلُ إلى عِلمِه، كان كلامُه فِتنةً لسامعه”.
وعندما قبض السلطان الصالح نجم الدين على أخيه الملك العادل الثاني بمدينة بلبيس سنة 637هـ = 1239م، قبض معه على أخواله من بَني الفقيه نصر؛ فأُمُّ الملك العادل اسمها “شمسة” – أو الست السوداء المعروفة ببنت الفقيه نصر، حسب ما ذكره المقريزي في “السلوك” -، كانت أولًا جاريةً لبني نصر، ثم تزوجها الملك الكامل، فأنجبت له ابنه العادل، فلمَّا تولَّى العادل حكم مصر قرَّب أخواله هؤلاء، وقد كان جماعةٌ منهم يعيشون بقُوص، وكان لهم إحسان إلى الفقراء والفقهاء والمشايخ، ومن بينهم الشيخ مُفرِّج الدَّمَامينِيّ، فتوجَّه الشيخ مُفرِّج ومعه الشيخ مجد الدين علي بن وهب القُشيريّ – والد تقي الدين بن دقيق العيد – إلى القاهرة، وكان ذلك في أوائل سنة 638هـ = 1240م؛ لمناشدة السلطان نجم الدين كي يطلق سراحهم، وقد ذكر أبو الفضل الإدفوي في كتابه “الطالع السعيد” أنه كان يُقال للشيخ مُفرِّجٍ وهو في طريقه إلى القاهرة: “يا سيدي! إذا دخلت على السلطان، إيش تقول له؟” فقال لهم: “يا أولادي! كل كلامٍ مُعَبًّى مفسودٌ”، وقد قالوا له ذلك؛ لأن السلطان نجم الدين كان معروفًا بصرامته، وعدم اختلاطه بالعلماء أو بغيرهم، لذلك كان يهابه الجميعُ.
ولمَّا وصل الشيخ مُفرِّج القاهرة نزل عند قبر الإمام الشافعي، فكثر الناس عليه، فأرسل السلطان إليه يقول: “لولا العوام جئتُ إليك”، وطلب منه الحضور عنده، فطلع ودخل عليه، وكان عادة الشيخ مُفرِّج أول ما يرى شخصًا يقول له: قال رسول الله ﷺ : “لا تَقَاطَعوا، ولا تَدابروا، ولا تَباغضوا، ولا تَحاسدوا، وكُونوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاه فوقَ ثلاثٍ”، فلما رأى السلطان قال له: أنت السلطان؟ قال: نعم. فروى الحديث، فوجم السلطان؛ خيفة أن يشفع في أخيه العادل. فلما ذكر أولاد الفقيه نصر، سُرِّي عنه، وأمر بإطلاقهم جميعًا، ورد إليهم كلَّ أموالهم.
وذكر الصَّفَدِيّ أنه بلغ من تعظيم السلطان للشيخ مُفرِّجٍ أنه أخرج حريمَه حتى لمس الشيخ رؤسهن، ودعا لهن.
فالسلطانُ نجم الدين أيوب أكرم هذا العابد، وعرف له قدرَه، وقدر مجيئه إليه حقَّ قدره، واحترم شيبته؛ فقد كان الشيخ مُفرِّجٌ حينذاك قد تخطى تخوم الثمانين بقليلٍ، وقبل شفاعته، ولم يردْه صفر اليدين، ناهيك من امتثاله لما جاء في “الصحيحين” عن النبي ﷺ : “لا تَقاطعوا، ولا تَدابروا …”، وهذا نبلٌ منه، وأيُّ نُبلٍ؟! ألا حيَّا الله هاتيك النفوس الكبار؛ فعلى مثلها تصلح الممالك، وتستقيم أمور الرعية.
وقد قيل: ثُمَّ انقضت تلك السُنون وأهلُها ** فكأنَّها وكأنَّهم أحلامُ