يمارس أكثر المشتغلين بالفقه في هذا الزمان ما يسمى ” الاجتهاد الانتقائي” والمراد به: ” اختيار  وانتقاء أحد الآراء المنقولة في تراثنا الفقهي العريض للفتوى ترجيحا له على غيره من الآراء والأقوال الأخرى.”

والواجب في هذا الاختيار ألَّا يكون عن تشهِّ وهوى، كما  يجب ألَّا يكون نتاج خبط عشواء، أو نتاج ضربة نرد، وإلا لم يكن اجتهادا . وحتى يتحرر هذا الاجتهاد من الهوى والعشوائية والفوضى لا بد أن يرتكز إلى قواعد وأسس مبدئية، هذه القواعد هي موضوع  علم أصول الفقه.

فالقواعد الأصولية هي الضابط الوحيد، الذي يمكن أن يفصل بين الاختيار العشوائي والفوضوي وبين الاختيار العلمي المنضبط.

أصول الفقه أولا

وهذا يقتضي أن يُقبل المشتغل بالفقه أولا وقبل الفقه على أصول الفقه، لا لدراسته فقط، ولا لتدريسه والنبوغ فيه، ولكن ليختار لنفسه القواعد الأصولية التي سيسير عليها في أثناء عملية الترجيح والانتقاء.

1. القياس

فمثلا سوف يحدد لنا ولنفسه : ماذا سيختار في القياس ؟ هل سيعمل به؟ أم سيكون ظاهريا يقف عند ظاهر النص ولا يتعداه بحثا عن العلة.

وفي أثناء ذلك، فإنه لا يمكن أن يختار القياس في بعض المسائل ، ثم يتركه في بعضها الآخر ؛ لأنه ساعة يفعل ذلك، سوف يكون قائده إلى هذه العشوائية الهوى والأريحية، إذا أعجبه المُخرج الفقهي للقياس في مسألة قال به، وإذا لم يُعجبه أعجبه المُخرج الفقهي للقياس في مسألة أخرى طرحه، فيكون متبعًا لهواه.

فالإمام ابن حزم مثلا حينما اختار طرح القياس وعدم العمل به، التزم ذلك في جميع مسائل الفقه التي ناقشها، حتى حينما كان المنتج الفقهي لهذا المنهج مستبشعا في العقول، وما كان يسعه غير ذلك أصلا، ولو فعل لرميناه باتباع الهوى!

2. خبر الآحاد

كما على الباحث أن يحدد لنا ولنفسه : ما موقفه من خبر الآحاد الذي يخالف ظاهر القرآن؟

وما موقفه من الحديث المرسل، والحديث الموقوف؟

وما موقفه من رواية المستور؟

وما موقفه من الراوي المختلف في تعديله وتجريحه؟

وما موقفه من الإجماع بنوعيه؟ هل يراهما حجة؟ أم يرى حجة النصي منهما دون السكوتي؟ إلى غير ذلك من المسائل الأصولية التي يتحدد على أساسها انتقاء أحد الأقوال دون بعض.

وفي أثناء ذلك لا يمكنه أن يختار القاعدة مرة، ويختار نقيضها مرة أخرى.

هذا هو المعيار الوحيد الذي ينبئنا : هل هو متبع لهواه؟ أم متبع لقواعد ثابتة مطردة، فليس الأمر هنا موكولا لنيته وتقواه بينه وبين ربه! فمجرد التقافز بين مسائل الأصول إعمالا وإهمالا، بحيث يعمل القاعدة مرة ويهملها أخرى، مجرد هذا التقافز دليل على اتباعه هواه ولو كان يقوم في المسجد قيام السارية.

الإمام مالك وطهارة الكلب

ذهب الإمام مالك إلى طهارة الكلب وعدم نجاسته، ومن الجدير بالبيان هنا أن الإمام مالكًا كان لا يسُعه إلا أن يختار طهارة الكلب وفق الأسس الأصولية التي وضعها لنفسه في تكوين اختياراته الفقهية.

ذلك أن هذه المسألة حينما نظر إليها الإمام مالك، لم ينظر إليها على أنها تتعلق بالكلب، أو لأن الكلب أصبح عند قطاع من الناس حيوانًا مألوفاً، نظيفًا، ظريفًا لطيفًا…هذا كله لا علاقة له بالمسألة عند الإمام مالك.

فالمسألة عند الإمام مالك تطبيق لقاعدة أصولية، حدَّدَ الإمام مالك موقفه منها، وهذه القاعدة هي : إذا تعارض حديث الآحاد مع ظاهر القرآن، أيهما يقدم؟ كان اختيار مالك : أن الحديث إذا دعمته قاعدة من قواعد الشرع قدم الحديث، وإذا لم يُدعم قدَّم ظاهر القرآن.

فأما ظاهر القرآن، فهو أن قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، يقتضي طهارة فمه ، حيث إن القرآن أباح ما يمسكه الكلب بفمه من الصيد، دون أن يأمر بغسله، فدل ذلك على طهارة فمه.

ومن ناحية أخرى، فإن الإمام مالكًا كان قد قعّد عنده قاعدة مفادها : أن الأصل في الحيوانات : الطهارة، والكلب واحد من الحيوانات.

فلما تعامل الإمام مالك مع حديث: ” إذا وَلَغَ الكلبُ في إناء أحدِكم فَليُرِقه، ثم لْيَغسِلْهُ سبَع مِرَار”[1]. وجده معارضًا لظاهر القرآن ولهذه القاعدة الشرعية معًا، كما وجد هذا الحديث يقف وحده دون دعم من قواعد أخرى في هذه المواجهة مع ظاهر القرآن ومع تلك القاعدة الشرعية.

عندئذ أعمل مالك قاعدته في تقديم ظاهر القرآن على الحديث، وقال : “يؤكل صيده فكيف يكره لعابه؟[2] وذهب إلى أن لعاب الكلب طاهر، وإن كان يغسل تعبدا، أي لعلة لا نفهمها، إلا أنها ليست النجاسة قطعًا.

مدى اتساق مالك مع منهجه

لكن  الإمام مالكًا ظل متَّسقًا مع منهجه أيا كانت المخرجات التي يُفرزها هذا المنهج؛ لأن الموضوع ليس تشهيًا، كما أنه لا ينظر فيه إلى الشكل الجمالي للمنتج الفقهي، ولا إلى درجة الرضا الشعبي عنه، ولا إلى كيفية التعاطي الإعلامي معه، ولا إلى مدى اتساقه مع الذوق العام مثلًا، ولا إلى مدى انسجامه مع العاطفة الإسلامية….إلى آخر هذه المواءمات.

1. الصائم والأكل نسيانا

فتجده مثلا اتساقًا مع هذا المذهب، يذهب إلى أن من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم، يفسد صومه، مع ورود حديث: ” مَن نَسِيَ وهو صائم، فأكلَ أو شربَ، فليُتمَّ صومه، فإِنما أطعَمهُ الله وسقاه»[3]

وذلك لأن هذا الحديث اصطدم بقاعدة شرعية، وهي (أن المأمورات يؤثر فيها النسيان كما يؤثر  فيها العمد)، فالصيام ركنه : الامساك عن المفطرات، ومن تناول المفطر فقد فوت ركن الصوم، والصيام من باب المأمورات، فمن فوت ركنا من أركان الصلاة ناسيا فإن صلاته لا تصح حتى يأتي به، وكذلك الحج؛ فالصيام مثلها، وبما أن الركن الوحيد في الصيام انما هو الإمساك، فاذا فوته، فقد فوت الصيام كله، وعليه أن يأتي بغيره قضاءً.[4]

2. المصة والمصتان

وهذا منتج فقهي آخر للمذهب المالكي، أفرزته ذات القواعد الأصولية التي أفرزت طهارة الكلب، وهو أن  المصَّة الواحدة من الرضاع تجعل المرأة أمًّا من الرضاعة كما تجعل الرضيع  ولدًا من الرضاعة لهذه الأم؛ ذلك لأن الله عز وجل قال {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23]. فظاهر هذه الآية يقتضي أن تحرم المصّة والمصّتان فما فوقهما؛ لأن القرآن سماها أمًّا من الرضاعة دون اشتراط عدد من مرات الرضاعة.[5]

وبالمنطق ذاته تعامل الإمام مالك مع حديث «لا تحرم المصة ولا المصتان”[6] أو الرضعة والرضعتان» وحديث عائشة قالت: «كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نسخن بخمس معلومات. فتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهن مما يقرأ من القرآن» .[7] فردَّ الإمام مالك هذين الحديثين وما كان في معناهما؛ لأنهما طبق قواعده يخالفان ظاهر القرآن.

فهل يمكن للباحث أن يختار مرة طهارة الكلب طارحا حديث الأمر بغسل ما يلغ فيه الكلب بحجة أنه يخالف القرآن، ثم يخالف مالكا في تحريم المصة والمصتين؟

إنه إذا فعل ذلك كان متناقضا، ومتلاعبا بالقواعد الأصولية، ناظرا إلى المنتج الفقهي الذي سوف تفرزه القاعدة، لا إلى القاعدة نفسها.

على أنه يمكن أن يدفع هذا الإلزام بدفوع، حفلت بها كتب المعارضين لمالك في هذه المسألة، وهنا يجب أن نذكر أن هذه الدفوع ذاتها ذكرها المعارضون أيضا لمالك في مسألة طهارة الكلب، فماذا يُسمى استدعاؤها واستحسانها في مسألة دون أخرى!

3. خروج المرأة المعتدة

ضعَّف ابن حزم حديث الفريعة، فمن ثمّ لم يقُل بموجبه، وحديث الفريعة هو :

عن فريعة بنت مالك قالت: « قُتل زوجي وأنا في دار، فاستأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في النقلة، فأذن لي. ثم ناداني بعد أن توليت، فرجعت إليه، فقال: يا فريعة، حتى يبلغ الكتاب أجله. ”

وعلى هذا، فقد ذهب ابن حزم إلى أنه يجوز للمعتدة من الوفاة أن تعتد حيث شاءت من الأماكن، ويجوز لها الخروج من منزل العدة في أي وقت شاءت من ليل أو نهار.

لكن مَن رأى من العلماء أن الحديث صحيح، لم يسعه إلا أن يقول بمقتضاه، قال ابن عبد البر :  “هذا حديث مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج منه وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وهو قول عمر وعثمان وابن عمر وابن مسعود وغيرهم”([8])..

والمقصود أن على الباحث إذا أراد أن يأخذ برأي ابن حزم هنا، فإن عليه أولا أن يضعف هذا الحديث، إما أن يكون مقلدا لابن حزم في تضعيفه، فيلزمه متابعة ابن حزم في منهجه الحديثي حتى لو خالف ( الترمذي، و ابن الجارود، وابن حبان، والحاكم والذهبي، و محمد بن يحيي الذهلي الحافظ الثقة الجليل، وابن حجر ، و ابن كثير، وابن القيم، والأرنؤط، والألباني، وأحمد شاكر) فهؤلاء جميعا خالفوا ابن حزم وصححوا الحديث.

وإما أن يكون متمرسا في الصنعة الحديثية فيتبين له وجه لتضعيف هذا الحديث، فيذكره لنفسه أولا، وللناس ثانيا.


[1] – متفق عليه.

[2] – المدونة (1/ 116)

[3] – متفق عليه ،  البخاري 3/40 رقم (1933) ، ومسلم 3/160 رقم (1155).

[4] – شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 278)

[5] -بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/ 60)

[6] – رواه مسلم.

[7] – رواه مسلم.

([8])التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (21/ 31)