بديهي أن يكره الانسان الموت او الفناء، لكنه يدرك تمام الادراك بأنه سيموت او يفنى، فكيف يوفق هذا المسكين بين نزعة الرغبة في البقاء والحياة من ناحية وبين يقين الفناء الذي يسيطر عليه من ناحية ثانية؟

 

لقد تفتق التفكير الانساني في بداياته عن فكرة تخليد ذاته بأي أثر من آثاره، فرسم نفسه على جدران الكهف ولو بطريقة اقرب ” للخرابيش”، ثم تطور الامر بعد آلاف السنين بصناعة تمثال لنفسه حاول من خلاله ان يكون قريب الشبه لحد بعيد بشكله ولونه ، ثم اصبح أكثر قدرة بعد مئات السنين على الرسم الدقيق لذاته، ثم أكتشف الكاميرا بعد عشرات السنين فصور نفسه ووضعها في مرحلة لاحقة في إطار يحفظها، ثم اكتشف ان بامكانه ان يرسم الصورة لذاته من مواد لا تبهت مع الزمن..ثم توصل لمرحلة الاحتفاظ بصوته باختراع آلة التسجيل ، ثم تمكن من الاحتفاظ بالصوت والصورة متحركة ” وحية”..فما زلنا نرى- على سبيل المثال- جمال عبد الناصر يخطب ويتحرك ويضحك رغم مرور نصف قرن تقريبا على وفاته.

ثم انتقلنا للخطوة الاولى نحو الاستنساخ ، ورغم انه لم يطبق على البشر حتى الآن، لكن السعي نحوه لم ولن يتوقف…أنها نزعة الرغبة في الخلود ..بالحفاظ على الذات بأي شكل من الأشكال ولو من خلال اعادة انتاج نفسه(الاستنساخ) ، فإن لم يتمكن من إبقاء ذاته فليكن من خلال الانجاب ليرى في ابنائه امتدادا له ، وهو ما يعبر عنه المثل الشعبي ” من خلَّفْ ما مات” ..أنها نزعة الرغبة اللاهبة في البقاء …ولعل تباين الشعوب في طرق الدفن للميت يراها البعض دلالة على تحايلات أكثر رمزية وتعقيدا في هذا المجال..

هذه النزعة الجارفة هي التي جعلت بعض العلماء وعلى رأسهم فرويد يفترضون ان فكرة الحياة الآخرة هي حلقة من حلقات ” التحايل ” العقلي لطمأنة النفس بالبقاء، أي انها ابداع انتجه العقل الباطن الجمعي ، وهي التي جعلت سارتر يقف فوق احد البراميل في احد زوايا شوارع باريس ليصرخ ” لماذا “؟…وهي التي جعلت ابيقور يتساءل لماذا اخاف من الموت؟ فطالما انا موجود، فإن الموت لا وجود له، وعندما يكون الموت فإننى لا أكون موجودا، فلماذا اخاف من ذلك الذى لا وجود له عندما اكون موجودا.

انها تحايلات تتطور …فهل تصل هذه التحايلات لما هو أكثر تعقيدا.

اما الأديان، فبعضها حل اللغز بالتناسخ، وبعضها أكد حقيقة البعث والحياة الآخرة، وبعضها غض الطرف عن المناقشة كلها…وما يجمع كل هذا هو ” نزعة الرغبة في البقاء”..اما المنتحرون فهم الذين يهربون من قسوة هذه الرغبة والعجز عن تلبية مطالبها …ربما..