لا تزال المحظرة أهم مفخرة للشناقطة؛ فهي معجزتهم التي بهروا بها العالم أجمع، وبذُّوا بها نظراءهم من أمم الشرق والغرب؛ فبفضلها سادوا المشارقة، وتتلمذ لهم أهل الجنوب، وبوجودها حفظوا للِسان العرب جزالته أيام كان يمر بضعف في مضارب عزته في شرق آكلي الشيح والقيصوم، وبالمحظرة خَرَم الشناقطة قاعدة ابن خلدون في تلازم العلم والحضر؛ فكانت أفانينُ العلم تُدَرَّس أيامَ الظَّعَنِ فوق ظهور العيس، كما كانت أيام الإقامة تُحرَّر في مرابع ابن بونه التي:

فيها تجمع سيبويه ويوسف… والكاتبي والأشعري وأشهب

كما شهد فتى المحظرة وشاعرها الألمعي العلامة حرمة بن عبد الجليل؛ لذلك لا عجب أن كان اللوح رمز عزة الفتى؛ فقد طفق حكماؤهم يؤثرونه على ما عداه من متع الدنيا؛ فكان “صاحب وأنيس” ابن حنبل الذي ضُرب المثل باجتهاده في الطلب، وانقطاعه له، وكيف لا ينقطع للوح والعلم؟؛ وقد علم من شيخه الشيخ سيديا الكبير الذي لم “يدرك المجد بالمنى.. ولكن بأيام أشبن النواصيا”؛ أنه:

“ما أفسد الألواح والهم والتقى.. كبيض التراقي مشرفات الحقائب”.

العهد الأول: امتازت المحظرة منذ عهدها الأول وحتى اليوم بميزات عدة؛ كالشعبية والبساطة والبدوية والتنقل والتلقين، وحرية الطالب فيما يدرسه من مقرراتها التي حصرها الأستاذ الخليل النحوي في العلوم الإسلامية التي تقررت فيما بعد زمن التدوين في الحواضر الإسلامية المختلفة شرقا وغربا كالقرآن والحديث وعلومهما، والتاريخ والسيرة النبوية والأنساب العربية، وعلم الكلام والسلوك، والفقه وأصوله، واللغة ومتعلقاتها المختلفة؛ من نحو وصرف وآداب ودواوين وعروض وبلاغة ومنطق، وفلك وحساب وجغرافيا وطب.

وهذا ما تشهد له مسامرات ابن الشيخ سيديا مع “سمار فتوِّ” ضموا إلى الحسب الأدب؛ “فداسوا .. أديم الفرقدين بأخمصين”. وقد امتازت بعض المحاظر بطبيعة ما تركز عليه من فنون؛ فبعضها أولى أهمية للفقه المالكي الخليلي كمحظرة الكحلاء والصحراء وأهل محمد ولد محمد سالم المجلسيين، كما امتازت المدرسة البونية باللغة نحوا وأدبا ومنطقا مع علم الكلام، وبان بونه حسب شيخنا الشنافي هو “مؤسس مدرسة المعارف العربية والإسلامية التي لا تزال التقاليد المتبعة في المحاضر تتقيد بها”، ثم جمعت بين العلمين محظرة العلامة يحظيه ولد عبد الودود الذي أخذ النحو والفقه من مظانهما، وعن محظرته تتفرع الآن أغلب المحاظر في منطقة الجنوب الموريتاني.

وكانت ثمة محاظر في الوسط الموريتاني لها أهميتها الكبرى في الإضافات الفقهية والأصولية في منطقة اركيبه وتكانت وضواحيهما مع اشتهارهما مع منطقة أَفَلَّهْ بعلوم القرآن ورواية نافع، كما للمدن التاريخية أيضا خصائص في المقررات والإضافات والاهتمامات يضيق المقام عن تفصيل ذلك، كما كان لإكيدي أيضا خصوصيته الهادئة المبدعة في كيفية التعليم والأخذ والاهتمام والتصنيف الجامع، وللمدرسة المجلسية في الغرب أيضا زيادة اهتمام بالسيرة والأنساب يتضح ذلك في مصنفات مؤسسيها وأحفادهم.

وللشيخ محمد المامي أيضا تجديده لمسائل من العلم قلما تطرق لها غيره في “المنكب البرزخي” وفي منطقة الجنوب- التي يأخذ الشيخ محمد المامي اسم علم من أعلامها- أيضا مدارس أهلها العلمية، ورباطاتهم الجهادية التي حاول المستعمر ولا زال طمس معالمها وجهود أبنائها في خدمة العلم الشرعي وفروعه؛ تلك هي المحظرة في غابر زمنها فقد قيض الله لكل فرع من علوم شريعته ومتعلقاتها من يخدمه ويقوم عليه، وذلك مظهر من مظاهر حفظ الله لدينه وشرعه.

العهد الحاضر: لا تزال المحظرة كما كانت بالأمس في أغلب النواحي الجوهرية المتعلقة بالمقررات وكيفية الطلب وبساطة العيش وحرية الاختيار للفن المدروس، ومع أن معظم المحاظر ما زال يدرس تلك الفنون إلا أنه يلاحظ أن أغلب الطلاب صار يركز على فنون بعينها تتلخص في الفقه والنحو والصرف والأصول ومصطلح الحديث والبلاغة والمنطق والسيرة إلخ، مع ملاحظة ضعف اهتمام الطلاب بفنون عدة؛ كعلم الكلام والفلك والطب، فيبدو تيار السرعة وأمور أخرى تعجل الطلاب عنها الآن.

وتجدر الإشارة إلى أن المحظرة وأهلها الآن لا يعيشون خارج الزمن كما يظن بعض الكتاب المولعين بالوقيعة في المحاظر وأهلها؛ فالطالب المحظري مطلع على قضايا العصر بمختلف تشعباتها؛ ففي الأدب ثمت دواوين السياب ونزار قباني :”معْ.. نازكٍ تشدو له متحرره” بجانب (مختار الشعر الجاهلي) وديوان غيلان والهذليين، كما أن الروايات الأدبية المشهورة تقرأ في المحظرة أيام “الخميسة”؛ يقول أحد أصدقائي: وإن أنس م الأشياء لا أنس ذلك اليوم الذي كان يوم جمعة حيث كادت تفوتني صلاتها بسبب حرصي على ختم رواية “البؤساء” قبل أن يدخل وقت الدراسة الرسمي في المحظرة).

كما أن الأدب الساخر عرف طريقه إلى المحظرة بطريقة أكثر تسلية ورزانة؛ فبين يدي الآن رسالة بعنوان “امبور والزيت في أمور أهل هذا البيت” أهداها إلي مؤلفها صديقي التاه ولد سيدي البوفلاني -ذكره الله بالخير- بتقديم فتى المحظرة الموهوب شيخنا إبراهيم ولد اعمر كلي -حفظه الله ورعاه-، وفي الرسالة من بديع القول وطريفه ما يضحك الزمِّيت في محرابه، ويؤنس الطالب في مخبئه، كما أن كتب الفكر المعاصر بمختلف شعبه تمتلئ منه “صناديق” الطلبة في المحاظر، وهم أكثر قراءة لها من سواهم.

 

النقد الأول؛ التطيير

المحظرة كأي تجربة بشرية تحتاج إلى نقد وتقويم وتطوير لتلائم عصرها، وتزود المسلمين بهداة مهديين، يعلمون الجاهل، ويرشدون الضال، يضيفون إلى الأصالة العلمية المعرفة بأمور واقعهم، لكن ثمة سؤال محوري حول من يحق له النقد؟ وما هي حدوده؟؛ من أحسن وأجمع ما وقفت عليه في نقد وتقويم مناهج التعليم لدى المسلمين؛ كتاب “أليس الصبح بقريب” للإمام المحقق العلامة محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله.

وقد حدد فيه العلامة الزيتوتي مَن يحق له النقد بقوله “ومن الضروري أن الذي يتولى أمر نقد التعليم يكون ممن أنشأه ذلك التعليم نفسه، عارفا بحاجات الزمان وغايات العلوم، نظارا إلى الروح لا إلى الجثمان، بعيدا عن متابعة السفاسف، خبيرا بما أصاب مزاج التعليم من العلل وبأنواع أدويتها” ص 101. وعلى ضوء ما ذكر ابن عاشور أستعير من أستاذي الفاضل مولاي عبدالله مصطلح “التطيير” لأقول لأولئك الذين دأبوا على نقد المحظرة قصد “تطييرها” أن الله لم يكلفهم بذلك؛ إذ دراسة “الأخضري أو رسم الطالب عبد الله” على أهميتهما لا تؤهلان المرء لنقد المحظرة ومناهجها.

كما أنه ليس من النقد القويم أن تلصق بمؤسسة عريقة كل نقيصة، بسبب أن الزمن لم يسعفك لتكون هناك أيام الطلب، وسبب هذا التحامل أو اللبس على الأصح أن ناقدي “التطيير” يظنون أن كل من التحق بالمحظرة أيام عطل المدرسة أو بعد توبة من “التعصلك” في شوارع نواكشوط يصير محظريا بذلك، ثم إذا التحق فيما بعد ببعض التيارات التي توصف بالتطرف؛ يكون سبب تطرفه ذلك هو الأيام التي قضاها في المحظرة، والحقيقة أن مشكلة ناقدي “التطيير” وبعض المتطرفين هو عدم التمحظر لا التمحظر، أما حدود النقد فيجب أن لا تأتي على الشيء من أصله؛ فذلك “التطيير” المنهي عنه.

 

النقد الثاني؛ التطوير

إن الشرط الذي ذكره ابن عاشور فيمن يحق له نقد مناهج التعليم الإسلامية يعيِّن على خريجي المحاظر فقط أن يقوموا بنقد وتقويم مناهج الطلب في المحظرة أبقاها الله، وهي لا شك تحتاج إلى نقد “تطويري” عميق؛ فالمنهج التلقيني في المحظرة ينعكس على كسل العقول في بلادنا، كما أن بعض متون الآلة يأخذ أكثر من اللازم في الشرح والحاشية والتعمق.

وقد تنبه لذلك العلامة محمد الخضر بن الحسين شيخ الأزهر من قبل حين قال:” وقد كنت –عافاكم الله- ممن ابتلي في درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون، وأتوكأ على أدنى مناسبة حتى أفضى الأمر إلى أن لا أتجاوز في الدرس شطر بيت من ألفية ابن مالك مثلا، ثم أدركت أنها طريقة منحرفة المزاج عن الإنتاج”، كتاب “أليس الصبح بقريب”؟ ص 11. والحالة نفسها مر بها ابن عاشور، كما أن غياب التأصيل في المحظرة لا يزال ثُغرة يجب سدها في قادم الأيام.

وفي كتاب ابن عاشور المذكور نقود واقتراحات لا غنى لدعاة “التطوير” للأخذ ببعضها والاستفادة منها، والحقيقة أن الخريج المحظري يبدع ويضيف إذا تجاوز المقررات المحظرية بعد إتقانها، أما كيفية التدريس وإلقاء الدروس في المحظرة فإن الشيخ البغدادي ابن العراق العريق محمد أحمد الراشد رأى فيه أصلا من أصول نظريته؛ “حركة الحياة” فيقول معلقا على قول صاحب الوسيط :”لا ضابط للهيئة التي يلقي عليها المدرس عندهم، فتراه يدرس مرة ماشياً مسرعاً، ومرة جالسا في بيته، ومرة في المسجد، ومنهم من يدرس في أثناء الارتحال، من جهة إلى أخرى، سواء، كان ماشيا، أو راكبا، وقد يكون راكباً، والطلبة يمشون على أقدامهم في ناحيته” الوسيط 520.

يقول الشيخ الراشد معلقا على المشهد المهيب :”فهذا منظر جزئي خالد من مناظر الحياة يفيض بالمعاني، ويمنح اليائس الأمل، ويجعل التاجر المسلم يوازي شيوخ العلم في التطلعات والمشاعر، وتأمل هذا المنظر المتحرك والأرواح الدفاقة بالخيرات والعزائم، فالناقة تمضي متهادية، والطلبة في جلبة، من بين رافع رأس إلى وجه شيخ يعلو السنام العالي، وناكس ببصره إلى كتاب، وثالث يحدق إلى الأمام، كأنه يستشرف المستقبل، فالكل في جدٍّ والركب كله غير سلبي، بل يتحرك ويشهد أن الحياة حركة!! وأن الإيجاب هو الأصل!! وأن فقه الدعوة أصاب حين سمى أول خطوة أنها “المنطلق”…!! فأهدر الوقوف” حركة الحياة ج1ص 148.