**محمد القاسم
هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قِنْبَر، و “سيبويه” هو لقبه الذي به اشتهر حتى غطى على اسمه وكنيته، كانت أمه تحب أن تراقصه به وتدلـله في الصغر، وهي كلمة فارسية مركبة وتعني “رائحة التفاح”. وهو إمام النحاة الذي إليه ينتهون، وعلم النحو الشامخ الذي إليه يتطلعون، وصاحب كتاب العربية الأشهر ودستورها الخالد. فارسي الأصل ولد في حدود عام (140هـ / 756 م ) على أرجح الأقوال في مدينة البيضاء ببلاد فارس، وهي أكبر مدينة في إصطخر على بعد ثمانية فراسخ من شيراز. ولكن إلى متى ظل في البيضاء ؟ وكم كان عمره يوم رحيله إلى البصرة؟
جاءسيبويه إلى البصرة وهو غلام صغير؛ لينشأ بها قريبًا من مراكز السلطة والعلم، بعد أن فسحت الدولة العباسية المجال للفرس كيما يتولوا أرفع المناصب وأسناها، هذا ما ترجحه المصادر التي بين أيدينا، ولكن على ما يبدو هناك رأي آخر يتبناه أحد الباحثين؛ حيث يرى أن سيبويه وفد إلى البصرة بعد سن الرابعة عشرة، وهذا الرأي هو ما نرجحه ونميل إليه؛ لأن الناظر في كتابه يوقن أن صاحبه كان على دراية كبيرة باللغة الفارسية وكأنها لغته الأم.
سيبويه يخطئ في الحديث!
كان سيبويه وقتها ما زال فتى صغيرًا يدرج مع أقرانه يتلقى في ربوع البصرة ـ حاضرة العلم حينذاك ـ الفقه والحديث، وذات يوم ذهب إلى شيخه حماد البصري ليتلقى منه الحديث ويستملي منه قول النبي ﷺ: “ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء…
ولكن لقدر قدره الله له، يقرأ الحديث على هذا النحو: “ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت ليس أبو الدرداء …
فصاح به شيخه حماد : لَحَنْتَ يا سيبويه، إنما هذا استثناء؛ فقال سيبويه: والله لأطلبن علمًا لا يلحنني معه أحد، ثم مضى ولزم الخليل وغيره. ومن هنا كانت البداية.
شـيوخه
تتلمذ سيبويه على عديد من الشيوخ والعلماء، نخص منهم أربعة من علماء اللغة، أولهم: عبقري العربية وإمامها الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو أكثرهم تأثيرًا فيه، فقد روى عنه سيبويه في الكتاب 522 مرة، وهو قدر لم يروِ مثله ولا قريبًا منه عن أحد من أساتذته، وهو ما يجسد خصوصية الأستاذية التي تفرد بها الخليل بن أحمد رحمه الله، دون سائر أساتذة سيبويه، وثانيهم: أبو الخطاب الأخفش، وثالثهم: عيسى بن عمرو، ورابعهم: أبو زيد النحوي. ومات سيبويه رحمه الله وجل شيوخه على قيد الحياة!
مؤامرة تحاك
الأشجار التي تثمر هي وحدها التي تُلقى بالأحجار، يبدو أن هذا القانون يمتد أيضًا إلى دنيا البشر، فكثيرًا ما يتعرض العلماء لجهالة الجهلاء وللأحقاد والأضغان، ولكن الغريب حقًّا أن يتزعم المؤامرة عالم له ثِقْله وقيمته في دنيا اللغة، ولكن هكذا اقتضت حكمة الله أن الكمال لله وحده، وأن لكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة.
تحدثنا المصادر أن سيبويه بقي في البصرة منذ دخلها إلى أن صار فيها الإمام المقدم، وأن شهرته قد لاحت في الآفاق، وأنه دعي إلى بغداد حاضرة الخلافة آنذاك من قبل البارزين فيها والعلماء، وهناك أعدت مناظرة بين كبيري النحاة: سيبويه ممثلاً لمذهب البصريين والكسائي عن الكوفيين، وأُعلن نبأ المناظرة، وسمع عنها القريب والبعيد، ولكن الأمر كان قد دُبِّر بليل، فجاء الكسائي وفي صحبته جماعة من الأعراب، فقال لصاحبه سيبويه: تسألني أو أسألك؟ فقال سيبويه: بل تسألني أنت.
قال الكسائي: كيف تقول في: قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزُّنْبُور(الدبور)، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها بعينها؟ ثم سأله عن مسائل أخرى من نفس القبيل نحو: خرجت فإذا عبد الله القائمُ أو القائمَ؟
فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع، وأجاز الكسائي الرفع والنصب، فأنكر سيبويه قوله؛ فقال يحيى بن خالد، وقد كان وزيرًا للرشيد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟
وهنا انبرى الكسائي منتهزًا الفرصة: الأعراب، وهاهم أولاء بالباب؛ فأمر يحيى فأدخل منهم من كان حاضرًا، وهنا تظهر خيوط المؤامرة وتأتي بثمارها؛ فقالوا بقول الكسائي؛ فانقطع سيبويه واستكان، وانصرف الناس يتحدثون بهذه الهزيمة التي مُني بها إمام البصريين. كان سيبويه لا يتصور بفطرته النقية أن يمتد الشر مدنسًا محراب العلم والعلماء؛ فحزن حزنًا شديدًا وقرر وقتها أن يرحل عن هذا المكان إلى أي مكان آخر ليس فيه حقد ولا أضغان؛ فأزمع الرحيل إلى خراسان. وكأنما كان يسير إلى نهايته؛ فقد أصابه المرض في طريق خراسان، ولقي ربه وهو ما زال في ريعان الشباب، لم يتجاوز عمره الأربعين، وذلك سنة (180هـ/ 796م) على أرجح الأقوال.
ولكن سيبويه لم يمت فسرعان ما بُعث حيًّا يخاطب الأجيال بهذا الكتاب الذي ضمنه أفكاره وآراءه وآراء معاصريه، فكان بحق أخلد كتاب في نحو اللغة وصرفها وأصواتها، يعتمد عليه الدارسون، مهما اختلف بهم الزمان والمكان.
تلاميذه
من الصعوبة بمكان أن نحصي تلاميذ سيبويه، خاصة لو وضعنا في اعتبارنا أن كل النحاة الذين جاءوا بعده غاصوا في بحور لغتنا الجميلة عبر كتابه، ولكن لو تعرضنا للتلاميذ بالمعنى الحرفي فإننا نقول: برز من بين تلاميذ سيبويه عالمان جليلان هما: الأخفش الأوسط (أبو الحسن سعيد بن مسعدة) وقطرب (أبو محمد بن المستنير المصري).
الكتاب بلا عنوان
درج كل العلماء والباحثين والمصنفين على أن يضعوا أسماء لمؤلفاتهم ومصنفاتهم، إلا أن الوضع معنا يختلف؛ فسيبويه لم يضع لكتابه اسمًا أو حتى مقدمة أو خاتمة، ولكن لماذا لم يضع سيبويه عنوانًا لكتابه أو مقدمة أو خاتمة؟
أغلب الظن أن القدر لم يمهله ليفعل ذلك؛ فمات سيبويه في ريعان شبابه، قبل أن يخرج الكتاب إلى النور؛ فأخرجه تلميذه أبو الحسن الأخفش إلى الوجود دون اسم؛ عرفانًا بفضل أستاذه وعلمه وخدمةً للغة القرآن التي عاش من أجلها أستاذه؛ فأطلق عليه العلماء اسم “الكتاب”، فإذا ذُكر ” الكتاب ” مجردًا من أي وصف فإنما يقصد به كتاب سيبويه.
أهمية الكتاب
الكتاب بمثابة خزانة للكتب، احتواها بالقوة في ضميره وتمخض عنها الزمن بالفعل من بعد وفاة سيبويه، فإذا الأئمة كلهم تلاميذ في مدرسته، وإذا المؤلفون جميعًا لا يجدون إلا أن يناقشوه ويفسروه ويعلقوا عليه ويصوبوه ويخطئوه، ولكنهم مع ذلك يدورون في فلكه، حتى أصبح هو المصدر الفريد لعلمي النحو والصرف بالإضافة إلى علم الأصوات.
منهج الكتاب
كثيرًا ما يوضح الكتاب مناهجهم في بداية كتبهم، ولكن الوضع معنا يختلف؛ فسيبويه لم يتمكن من وضع مقدمة لكتابه، يوضح فيها المنهج الذي سلكه في ترتيبه؛ ولذلك بقي منهج الكتاب لغزًا عصيًّا على الإدراك، حتى مضى بعض الباحثين إلى أن سيبويه لم يكن يعرف المنهج، وإنما هو قد أورد مسائل الكتاب متتابعة دون أي نظام أو رباط يربط بينها. ولو كان مؤلف الكتاب شخصًا آخر غير سيبويه، لجاز أن يسلم بهذا الرأي على ضعفه، أمَا والمؤلف سيبويه فمن الواجب أن ننزهه عن هذا.
وهنا ينبري شيخنا علي النجدي يحدثنا عن منهج سيبويه، فيقول: نهج سيبويه في دراسة النحو منهج الفطرة والطبع، يدرس أساليب الكلام في الأمثلة والنصوص؛ ليكشف عن الرأي فيها صحة وخطأ، أو حسنًا وقبحًا، أو كثرة وقلة، لا يكاد يلتزم بتعريف المصطلحات، ولا ترديدها بلفظ واحد، أو يفرع فروعًا، أو يشترط شروطًا، على نحو ما نرى في الكتب التي صنفت في عهد ازدهار الفلسفة واستبحار العلوم.
فهو في جملة الأمر يقدم مادة النحو الأولى موفورة العناصر، كاملة المشخصات، لا يكاد يعوزها إلا استخلاص الضوابط، وتصنيع الأصول على ما تقتضي الفلسفة المدروسة والمنطق الموضوع، وفرق ما بينه وبين الكتب التي جاءت بعد عصره كفرق ما بين كتاب في الفتوى وكتاب في القانون، ذاك يجمع جزئيات يدرسها ويصنفها ويصدر أحكامًا فيها، والآخر يجمع كليات ينصفها ويشققها لتطبق على الجزئيات.
ويمكن أن يقال على الإجمال: إنه كان في تصنيف الكتاب يتجه إلى فكرة الباب كما تتمثل له، فيستحضرها ويضع المعالم لها، ثم يعرضها جملة أو آحادًا، وينظر فيها تصعيدًا وتصويبًا، يحلل التراكيب، ويؤول الألفاظ، ويقدر المحذوف، ويستخلص المعنى المراد، وفي خلال ذلك يوازن ويقيس، ويذكر ويعد، ويستفتي الذوق، ويستشهد ويلتمس العلل، ويروي القراءات، وأقوال العلماء، إما لمجرد النص والاستيعاب وإما للمناقشة وإعلان الرأي، وربما طاب له الحديث وأغراه البحث، فمضى ممعنًا متدفقًا يستكثر من الأمثلة والنصوص. واللغة عنده وحدة متماسكة، يفسر بعضها بعضًا، ويقاس بعضها على بعض، وهو في كل هذا يتكئ في ترتيب أبواب الكتاب على فكرة العامل أولاً وأخيرًا.
جريمة سيبويه!
كثيراً ما نسمع شعراء تونس وهم يندبون حظهم، ويتهمون أبا القاسم الشابي بأنه حكم عليهم بالإعدام؛ لأنه ما ذُكِرَ الشعر التونسي إلا وذكر أبو القاسم الشابي فقط، يبدو أن هذا الاتهام وجه أيضًا إلى سيبويه، فيقول عضو من أعضاء المجمع اللغوي: قد كان من سوء حظ النحو العربي أن جاء سيبويه في وقت مبكر جدًّا لا يتجاوز النصف الثاني من القرن الثاني الهجري؛ إذ نتج عن تفوقه وشدة إعجاب النحاة به أن أُصيب التفكير النحوي بشلل، ودار الجميع في فلك سيبويه، ولم يطوروا بالقدر الكافي، ويكفي دليلاً على ما كان لعمل سيبويه من سحر وإغراء إطلاقهم على كتابه اسم ” قرآن النحو”.