يرتبط التنمر أو (الاستقواء) بالبيئة المدرسية ارتباطا وثيقا، لكونها الحاضنة الأساسية لهذا السلوك العدواني، و الفضاء الأنسب للمُتنمر كي يوقع الأذى النفسي أو الجسدي، أو الإلكتروني في ظل فورة الاتصال، على طلاب ضعاف من حيث القدرة البدنية و العقلية.

ورغم أن الظاهرة تزداد خطورة بالنظر إلى المتغيرات الاقتصادية و الاجتماعية التي ألمت بالأسرة العربية، من حيث تراجع الرقابة الأسرية، وهيمنة وسائل الاتصال الحديثة على وجدان الطفل وخياله، وانفرادها بتشكيل مواقفه و تمثلاته، إلا أن المكتبة العربية تشكو من عجز واضح في الدراسات و البحوث الكفيلة برصدها وبحث سبل العلاج.

بالمقابل، يكشف المجتمع الغربي عن تراث سيكولوجي مهم في رصد التنمر، وتجميع الإحصاءات وتنويع المقاربات وأدوات التشخيص، لا سيما بعد أن استفحلت المشكلة على نحو مرعب، إذا يؤكد الخبراء أن %20 من مجمل الأطفال الذين يتعرضون للتنمر في الولايات المتحدة، و البالغ عددهم 3.7 ملايين طفل، يعانون من تأثيرات نفسية ودوافع انتحارية متزايدة.

يختلف التنمر عن باقي أشكال العنف في كونه سلوكا هادفا ومتعلَّما، بمعنى أن المتنمر يستحضر نية الاعتداء مسبقا لإظهار سلوك محكوم بتوابع اجتماعية معينة. وبحسب نظرية التعلم الاجتماعي فإن أي طفل يمكنه أن يصبح متنمرا، عن طريق محاكاة نماذج يتسم سلوكها بالعنف، كالأب داخل الأسرة، أو أبطال الرسوم المتحركة والأفلام السينمائية. أما الاتجاه العقلاني فيرى أن مبعث هذا السلوك مرتبط بأفكار منحرفة، وقناعات خاطئة تستلزم مواجهتها عن طريق تغيير ما يسمى بحديث الذات السلبي(1).

تتضافر جملة من العوامل لتغذية سلوك التنمر، وتحويل البيئة المدرسية إلى فضاء للعنف و الاستبعاد، والإساءات الخفية والمعلنة .بعض هذه العوامل نفسية، والبعض الآخر اجتماعي. لكن لا يخلو النظام المدرسي ذاته من مُمهدات للتنمر تستدعي تحركا عاجلا للحد منها. ويمكن، لأجل تقريب الصورة على نحو أفضل، أن ندرج الأسباب العديدة التي توصل إليها الباحثون في علم النفس التربوي ضمن محددين أساسيين هما : تفريغ الانفعال، ومحاكاة النموذج.

بما أن الأسرة هي الخلية الأولى المسؤولة عن نمو الطفل وتلبية حاجاته الأساسية، فإن ظهور التنمر يعد مؤشرا على خلل في المعاملة الوالدية، وانكماش بُعديها التربوي و الرقابي. فالمتنمر طفل قلِق، تعرض لسوء المعاملة إما بالترهيب أو بإشعاره بأنه غير مرغوب فيه. لذا فهو يعاني الشعور بالإهمال والإحباط، وعدم الاهتمام بميوله وقدراته. ومن الملفت للانتباه أن بعض الآباء يكافئون التنمر باعتباره من بوادر الرجولة و القوة التي ينبغي أن يتمتع بها الطفل في عالم متوحش، وبذا يكون الأمر أشبه بمن يرى أن علاج الجنون هو أن تلهب ظهر المريض بالسياط، ولله في بعض خلقه شؤون !

تكمن بذرة التنمر إذن في أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي تسهم في توليد شخصية قلِقة ومتمردة، تنزع للخروج عن قواعد السلوك وإلحاق الأذى بالآخرين، كتعويض عن نقص الاستجابة للحاجات العاطفية. لأن الطفل في ظل وضع أسري عصيب، لا يملك القدرة على التفكير و التصرف بهدوء، مادامت العمليات العقلية العليا التي توجه الفعل للتوافق مع البيئة بشكل سليم لم تكتمل بعد، لذا يسارع إلى تفريغ انفعالات لا يملك التحكم بها لاحقا.

إلى جانب القلق و الشعور بالإهمال، تشكل الغيرة مظهرا انفعاليا آخر، يغذي سلوك التنمر إزاء الغريم، سواء كان الأخ الأصغر أو زميل الفصل الذي يتمتع بحماية أسرية زائدة. ومرد ذلك إلى تفضيل الآباء لأحد الأبناء، وتحيزهم عن غير قصد أحيانا لمن يتمتع منهم بالذكاء أو الوسامة. إنها عقبة ينبغي تخطيها بتقوية الروابط و الانجذاب بشكل عادل بين جميع الأبناء. إن المهم ليس أن تفضل أحدهم على الآخر لكن المهم أن تحب الجميع !(2)

يسهم العامل الاجتماعي ممثلا في كل الظروف المحيطة بالطفل، سواء الأسرة أو جماعة الرفاق فضلا عن البيئة المدرسية، في توليد التنمر وتعزيزه. إن التفاعل الاجتماعي داخل الأسرة ينعكس سلبا أو إيجابا على شخصية الطفل. وفي حالة المُتنمر فإن سلوكه العدواني يظهر نتيجة التفكك الأسري و الشجار المتواصل بين الوالدين، أو الحرمان المتولد عن تدني مستوى المعيشة. ينضاف إلى ذلك ما يمكن أن يعايشه في البيئة المدرسية من أجواء الإساءات الخفية أو المعلنة، ومظاهر التوتر و الكبت والاستفزاز.

وبما أن قدرا كبيرا من سلوك الطفل يُكتسب عن طريق ملاحظته المباشرة لسلوك الآخرين، فإن محاكاة نماذج تتسم بالعدوانية يُمهد لاحقا للتنمر، ويمنح الطفل كما هائلا من الصور الذهنية التي يستحضرها عند احتكاكه المباشر مع جماعة الرفاق.

تطرح التجارب التي قام بها ألبرت باندورا مع فريق من الباحثين مثالا للاستجابات العدوانية التي يُبديها الطفل عند تقليد النموذج. ففي سنة 1961 أدخل ماندورا مجموعة من الأطفال إلى حجرة يشاهدون فيها شخصا يركل دمية من المطاط وينعتها بألفاظ بشعة لم يسبق لهم سماعها. وبعد خروج “النموذج” دخل أطفال آخرون لم يتابعوا المشهد. و اتضح من التجربة أن المجموعة التي تابعت النموذج قامت بمحاكاة كثير من تلك الاستجابات العدوانية بدقة، في حين لم تُبد المجموعة الثانية سلوكا مماثلا.

عالم نفس كندي ألبرت باندورا

تغذي المحاكاة شعور الطفل بأنه كائن ذاتي الإرادة، بمعنى أنه بمجرد نجاحه في تقليد سلوك أو مهارة فإنها تصبح خاضعة لإرادته هو وليس لإرادة النموذج المحتذى؛ وبالتالي ينمو شعوره بالكفاءة و السيطرة على ما حوله(3).

لذا تمنح مشاهد العنف المتبادلة داخل الأسرة، أو تلك  المستمدة من التجربة التلفزيونية وألعاب الفيديو محفزات عدة لظهور التنمر وممارسته.

يشير محمد الشامي، في دراسة تقويمية بعنوان ( المداخل التربوية لمواجهة العنف المدرسي.2006) إلى أن وسائل الإعلام لها تأثير مباشر في السلوك الاجتماعي للطفل؛ إذ تستثير خياله وتدفعه إلى تقمص الشخصيات التي يشاهدها، خصوصا ما اتصل منها بالحركة و المغامرة و العنف. وقد تتحول حالات التقليد و المحاكاة إلى ممارسة فعلية لأعمال العنف التي يترتب عنها انسياق الطفل في مسارات الجنوح و ارتكاب الجرائم، أو تعرضه للإحباط حين يخفق في تحويل الخبرات السلبية إلى سلوك عدواني مباشر !

يعمد المتنمر إلى إلحاق الضرر بالآخرين عن طريق الإهانة اللفظية التي تشمل السب، و التهديد، وترويج الإشاعات الكاذبة والألقاب المشينة ذات الحمولة العرقية. كما يلجأ إلى التنمر الجسدي بالضرب، أو الإيقاع أرضا، أو إجبار الضحية على القيام بفعل مهين. وفي حالات أخرى يتجسد التنمر في إتلاف ممتلكات معينة، أو الإقصاء من جماعة الأقران. ولا ننسى ضمن هذا السياق أن نستحضر كذلك أحد مظاهر النقلة المجتمعية الحادة التي خلفتها الثورة التكنولوجية الحديثة، والمتمثل في تنامي سلوكيات ما يُصطلح عليه بالتنمر الإلكتروني؛ حيث منحت الهواتف النقالة ومواقع التواصل الاجتماعي مساحات إضافية للمُتنمر كي يتمدد خارج الأبنية المدرسية، ويحقق أغراضه مستخدما رسائل البريد الإلكتروني والهاتف، أو فبركة الصور و الفيديوهات وتضمينها إساءات مختلفة.

يخضع الطفل المتنمر في المجتمعات الغربية لتدخلات علاجية تنمي مهاراته الاجتماعية، وتبدد الأفكار والمعتقدات الخاطئة من خلال غرس قيم الاحترام والعدالة. كما تم تصميم برامج وأساليب إرشادية موجهة للآباء، تُكسبهم مهارات التواصل مع الأطفال ورصد مؤشرات التنمر داخل البيت، لتقاسم المشكلة وطرق الحماية مع الإدارة المدرسية وأعضاء الهيئة التعليمية. أما على المستوى العربي فلا يخفي الدارسون للتنمر داخل المؤسسات التعليمية، أو حتى في البيئة الأكاديمية، استياءهم من عدم إيلاء الظاهرة ما تستحقه من عناية، رغم تهديدها للأمن المدرسي وانعكاساتها الخطيرة على مستويات التحصيل الدراسي. و باستثناء عمل تجريبي مدرج في المناهج الدراسية لبعض الأقطار كالجزائر و السعودية ومصر، يستمر الجهل أو “التجاهل” قاسما مشتركا بين الأوصياء على بوابة المستقبل !


1- آراء و أفكار يُحدث بها الفرد نفسه لتبرير التنمر مثل “إن لم تضربهم ضربوك”، أو “اضرب الضعيف ليخاف القوي”.

2- د. زكريا الشربيني و د. يسرية صادق : تنشئة الطفل. دار الفكر العربي.2000. ص 242

3- د. محمد عماد الدين إسماعيل: الأطفال مرآة المجتمع. سلسلة عالم المعرفة. مارس 1986. ص 257