في كتب الشافعية أنه لو أصبح الصائم، وفي فمه خيط متصل بجوفه، كأن يكون أكل كنافة بالليل ، وبقي منها خيط بفمه، فإنه قد تعرض لورطة، تفسد عليه الصلاة أو الصيام لا محالة!

لأنه لو ابتلع ذلك الخيط فسد صيامه، ولو نزعه فسد صيامه؛ لأن ذلك يدخل في القيء العمد، ولو أبقاه دون بلع أو نزع ، صحَّ صيامه، لكن تفسد صلاته؛ لاتصال هذا الخيط بنجاسة الباطن!.

وذكروا في الخروج من هذه الورطة أن يجبره الحاكم على نزعه، فيكون كالمكره، فلا يفطر)!! [1]

قد تبدو هذه الصورة ألصق بأبواب المواقف والطرائف منها إلى أبواب الفقه المستمد من شريعة رب العالمين.

لكنها على أية حال تضيء الطريق أمام دور الطَّرَف الثالث وأهميته في حل بعض المشكلات.

الصلح بين المتخاصمين

قد يتخاصم الرجلان، ويشتد خصامهما ويطول، ولا يبادر أحدهما بالفيء ومصالحة أخيه أنفة منه أن يقوم هو بالمبادرة؛ لبقية جاهلية مترسبة في نفسه؛ أو لخوفه أن يرده صاحبه، أو لعميق شعوره بالمظلومية أو لغير ذلك من الأسباب.

هنا يظهر دور الطرف الثالث في إزالة هذه الخصومة بينهما حتى لو بالكذب، فيشرع أن يتوسط الطرف الثالث بينهما، موهمًا كل واحد منهما أن صاحبه يريد مبادأة أخيه بالصلح لكنه يخشى صدوده، أو يقوم بتذكيرهما بحرمة الهجران فوق ثلاث، وبوجوب التصالح.

وهو دور مهم وضروري، وقد لا يكون في قوله شيء جديد ، لكن دوره هو الذي يأتي بالحل، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا» . [2]

ضمان الطرف الثالث

قد يتردد صاحب المال في مشاركة التاجر الأمين خوفًا من خسارة ماله في التجارة، ويغريه في ذلك انتشار البنوك الربوية التي تضمن الأموال لأصحابها مهما خسرت، وهنا لا يجوز لصاحب المال أن يشترط على التاجر عدم تحمله الخسارة، كما لا يجوز للتاجر أن يشترط على نفسه أن يحمل هو خسارة المال مهما كان واثقا  في نجاح تجارته وإلا وقعا في الربا.

وهنا يأتي دور الطرف الثالث، في صورة شخص لا علاقة نسب ولا شراكة مال بينه وبين التاجر، فيتبرع لصاحب المال  بتحمل الخسارة في حالة حدوثها، ويكون غرضه في ذلك تشجيع الاستثمار الحلال، وشد أزر صاحب المال للدخول في الاستثمار الجائز، وهذا أمر جائز شرعا كما أقرت المجامع الفقهية وهيئة المعايير الشرعية.

جاء في قرار مجمع الفقه الدولي : ” ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به، بحجة أنَّ هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد .”[3]

أمر المدين بحسن القضاء

يستدين المحتاج، ثم يقوم بقضاء دينه بعد فترة، لكنه ربما يكون جافي الطبع، بليد الحس فلا يفكر في رد الجميل للدائن، وينسى أو يتناسى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن خيركم أحسنكم قضاء» وذلك فيما جاء عن أبي هريرة أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له، فهمَّ أصحابه فقال: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه» قالوا: لا نجد إلا أفضل من سنَّه قال: «اشتروه فأعطوه إياه؛ إن خيركم أحسنكم قضاء”[4]

ومن حسن القضاء أن يرد مع القرض هدية غير مشروطة.

وهنا يأتي دور الطرف الثالث لينبه هذا المدين الشحيح عن رد الإحسان، ينبهه على أن يجازي بالإحسان إحسانا، بأن يرد هدية مع الدين.

وهذا الدور لا يمكن أن يقوم به الدائن، فلا يجوز للدائن أن يطلب من مدينه هدية على قرضه إياه، وإلا كان مرابيا، أو على أقل الأحوال كان  منتفعا بهديته فيضيع ثوابها.

الصلح بين الزوجين

ومن الأدوار التي سجلها القرآن للطرف الثالث، دور الصلح بين الزوجين، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } [النساء: 35]

فإذا نسيت الزوجة جميل وصال زوجها، وأصرت على نشوزها وشقاقها، أو تنكر الزوج لسالف ما رأى من حسن معاشرة زوجها، ولم يلح أمام عينيه إلا قبيح فعالها، ونسي أنه لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا، رضي منها آخر، إن حدث ذلك، جاء دور مجموعة الصلح المتمثلة في هيئة من المحلفين، تحاول الإصلاح، ورأب الصدع، فعسى أن يجري الله على أيديهم ما يحيي به هذا العقد الغليظ.

وبعد، فما أحوج أمتنا إلى ظهور دور هذا الطرف الثالث، يصلح بين المتخاصمين، ويرشد جافي الطبع إلى حسن الخلق، ويتقمص دور المندوب المبتعث من كلا الطرفين لإزالة الجفوة، فعلى يديه يتصالح الطرفان مع الاحتفاظ بالأنفة التي ربما يكون بقاؤها محمودا في بعض الأوقات.

إنه دور كبير وعظيم؛ ولذلك جعل له النبي صلى الله عليه وسلم حظًّا من الزكاة إحياء له، واستبقاء لمسيرته في الحياة، فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة[5] فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها. فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» . قال ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك.

ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش.

ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال سدادا من عيش.

فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا» . [6]


[1]– انظر في ذلك: حاشية الشرقاوي علي التحرير [3-433/436]، وفقه الصيام للقرضاوي.

[2]– متفق عليه من حديث أم كلثوم. اللؤلؤ والمرجان (3/ 198)

[3] – قرار رقم 30 (5/4) فقرة 9

[4]– متفق عليه.، اللؤلؤ والمرجان (2/ 155)

[5] –  الحمالة ، هي ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة مثل أن يقع حرب بين فريقين يسفك فيه الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين. حاشية السيوطي على سنن النسائي (5/ 89)

[6]– رواه مسلم، رقم (1044)