أيّ مجتمع وهو يشقّ الطريق نحو التحضر والنهوض، لا بد له من عدة شروط أو صفات ينبغي أن يتحلى بها؛ حتى يمكنه أن يرتقي في مدارج الحضارة..

وهذه الشروط أو الصفات يمكن أن نسميها بـ”المسألة الاجتماعية”؛ أي تلك المفاهيم والقيم التي تعالج شئون المجتمع من حيث علاقة روابطه بعضها ببعض؛ سواء على مستوى الأفراد أو الوحدات المكونة للمجتمع، وخاصة الأسرة.

ويمكن أن نقول ابتداء: إن المجتمع يسير في عدة خطوط متوازية، لا ينفصل بعضها عن بعضها، بل بينها علاقات تأثُّر وتأثير، كالأواني المستطرقة؛ فمن الصعب أن نرى تقدمًا في المسألة الاجتماعية دون المسألة السياسية، أو المسألة الاقتصادية، أو الأخرى الثقافية.. وهكذا.

هذا طبعًا في المنظار الصحيح، والرؤية المتكاملة، وإلا فأمامنا المجتمعات الغربية؛ استسهلت الحل، ووجدت طريقها في الفصل بين هذه المسارات؛ بحيث نرى انضباطًا في مسار وانفلاتًا في آخر..!

أما الرؤية الإسلامية فإنها تنظر للإنسان الفرد كوحدة متكاملة؛ من حيث الروح والعقل والجسد.. كما تنظر للمجتمع كوحدة متكاملة؛ من حيث علاقات أفراده ووحداته بعضها ببعض، تماسكًا أو تشتتًا، قوة أو ضعفًا..

فهذه نقطة أولى.. وهي تَوازي الخطوط والمسارات التي يتعين على المجتمع أن يسير فيها، وأن يحقق فيها نجاحًا ونهوضًا..

أما النقطة الثانية: فهي أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ونتيجة لما أصابها من تراجع حضاري عام، خلال العقود المتأخرة.. فإن المسألة الاجتماعية بها قد أصابها هي الأخرى شيء من هذا التراجع الحضاري.. على تفاوت من مجتمع لآخر..

فقد رأينا- للأسف- تفشي كثير من المفاهيم والسلوكيات السلبية، التي حذَّر منها الإسلام وبأشد ما يكون التحذير.. مثل الغيبة، والنميمة، والتحاسد، والتباغض، والتثبيط، والأنانية، والفردية، والانتهازية، والتفكك الأسري، وعدم الانتباه لأهمية الأسرة كقيمة مركزية في حياة المجتمع.. إلى غير ذلك مما عبَّر الحديث الشريف عن شيء منه بـ”الحالقة”؛ أي التي تحلق الدين، وتوهن الروابط الإنسانية وتزيد من الفجوات بينها.

فعن الزبير بن العوَّام رضي الله عنه أن النبي قال: “دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبَغْضَاء؛ هي الحالقة، لا أقول تحلق الشِّعر، ولكن تحلق الدِّين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا؛ أفلا أُنبِّئكم بما يثبِّت ذلك لكم؟ أفشوا السَّلام بينكم” (رواه أحمد والترمذي، وحسَّنه الألباني).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: “إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذب الحديث؛ ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا؛ وكونوا عباد الله إخوانًا” (متفق عليه).

وعن أبي هريرة أيضًا أن النبي قال: “سيصيب أمَّتي داء الأمم. قالوا: يا نبيَّ الله، وما داء الأمم؟ قال: الأشَرُ والبَطَرُ، والتَّكاثر، والتشاحن في الدُّنيا، والتَّباغض، والتَّحاسد، حتى يكون البَغْيُ ثمَّ الهَرْج” (رواه الطبراني في الأوسط، وحسَّنه الألباني)([1]).

فهذه الصفات الذميمة هي “الحالقة” التي تفكك الروابط الاجتماعية، وتزيل ما بينها من ترابط وتماسك.. ليس هذا فحسب، بل إنها يمكن أن تؤدي للقتل؛ فتنقل المجتمع من مجرد حالة التفكك والوهن إلى التقاتل وإراقة الدماء، بعد إراقة ما بين النفوس من وُدّ وصفاء.. فيكون جدار المجتمع، والحال هذه، مهدَّدًا بالانقضاض والانهيار..!

وهذه الصفات الذميمة هي أيضًا أدواء مشتركة بين الأمم، كما ذكر الحديث الشريف.. فهي إذن أمراض حضارية؛ ما إن تدب في مجتمع حتى تفصم عراه، وتعجِّل بهلاكه..!

إن هذه الأمراض الحضارية ليست مما يستهان بها، وعلينا أن نسرع في معالجتها ومداواتها، حتى نرمم جدار المجتمع، ونمنعه من الانهيار؛ فإن هذا الجدار عندما يكون متماسكًا يمنع العواصف والأعاصير من أن تقضي على المجتمع، وبجعل المجتمع بحالة قوية من المناعة والتحصين.

وهذا يجرنا إلى النقطة الثالثة: وهي أن من يحاولون استهداف مجتمع ما بالتفكيك والتهديم؛ فإنهم كما يستهدفون ذلك على المستوى العام؛ بإضعاف نظام الحكم، وإشاعة الفوضى.. فإنهم يقومون بالأمر نفسه على المستوى الاجتماعي؛ فيشيعون أفكار الانحلال، وسلوكيات التفسخ، ويقصدون إلى إضعاف الهوية واستبدال هوياتٍ أخرى غريبةً بها؛ بحيث يكون المجتمع مع هذه الهويات الجديدة/ الغريبة أسهلَ في الانقياد، وأطوع في التذويب.

ولهذا، فقد ترافق في تاريخنا الحديث “التغريبُ”- أي جَعْل الغرب نموذجًا وقدوة في السلوك الثقافي والاجتماعي- مع الاحتلال العسكري.. لم ينفصل الأمران، وإن استمر الأول حتى بعد رحيل الثاني!

في وسائل الترميم

لقد سلك الإسلام سُبلاً عدة لترميم جدار المجتمع وإعادة الروح إليه، ولم يدع لذلك فرصة إلا أشاع فيها التراحم والترابط، والاحترام والتقدير، وحِفْظَ الحقوق المعنوية والمادية، والصفحَ والعفو..

فكانت الصلوات الخمس؛ يجتمع فيها المسلمون على العبادة والطاعة، وعلى الأخوة والترابط.. يستعينون بحسن علاقتهم بالله تعالى على إحسان علاقاتهم بعضهم ببعض.

وكان تحريم الغيبة والنميمة وسوء الظن والتجسس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: 12).

وكان الندب إلى العفو والصفح، وكظم الغيض: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22)، وفي الحديث الشريف: «من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَه، دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يُخيِّرَهُ من أيِّ الحُورِ شاء» (رواه أبو داود والترمذي عن معاذ بن أنس الجهنيِّ).

كما كان في السياق ذاته: فريضة الزكاة، والندب إلى الصدقات وإلى الهدية؛ فإن ذلك يزيل ما بين النفوس من بغضاء، ويهذِّب الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين طبقات المجتمع، فلا تحقد فئة على أخرى: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} (الحشر: 7). قال ابن كثير في تفسيره: “أي : جعلنا هذه المصارف لمال الفيء؛ لئلا يَبْقَى مَأْكَلَةً يَتغلَّبُ عليها الأغنياء ويتصرفون فيها، بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئًا إلى الفقراء”.

وقال : “يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، تَهَادَوْا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ، وَتُورِثُ الْمَوَدَّةَ؛ فَوَاللَّهِ لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ لأَجَبْتُ” (الطبراني في الأوسط، عن أنس) ومعنى تسل السخيمة: تذهب الحقد والضغينة.

كما جاءت الأعياد أيضًا ليكون لها دور كبير في هذا الترميم لبنيان المجتمع.. ولعلنا نلاحظ أن عِيدَيْ الإسلام- الفطر والأضحى- يأتيان بعد طاعة- صيام رمضان وفريضة الحج- فكأنما العبادات تُرمِّم ما تهدَّم من جدار الروح، والأعياد ترمم ما تهدم من جدار المجتمع!

ولهذا شُرع في الأعياد التوسعة على الأهل، والتزاور، وصلة الأرحام.. إلى غير ذلك من آداب تهدف إلى معالجة الثغرات التي تظهر في المجتمع، من قبل أن تستفحل ويصعب العلاج..

فبهذه الأمور وغيرها يتقوَّى نسيج المجتمع، ويقف جداره صلبًا شامخًا أمام الأنواء، المادية والمعنوية على السواء.. ومن ثم، يستطيع أن يشق طريقه نحو الحضارة..


([1]) (الأشر) أي كفر النعمة، (والبطر) الطغيان عند النعمة وشدة المرح والفرح وطول الغنى، (والتكاثر) مع جمع المال، (والتشاحن) أي التعادي والتحاقد، (في الدنيا والتباغض والتحاسد) أي تمني زوال نعمة الغير، (حتى يكون البغي) أي مجاوزة الحد. وهو تحذير شديد من التنافس في الدنيا؛ لأنها أساس الآفات، ورأس الخطيئات، وأصل الفتن، وعنه تنشأ الشرور. وفيه علم من أعلام النبوة؛ فإنه إخبار عن غيب وقع. (فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير)، المناوي، 4/ 161، دار الكتب العلمية. والهَرْج: القتل.