احتدم خلاف كبير وطويل حول الدليل العقلي والدليل النقلي في إثبات العقيدة الإسلامية، وعرفت فرق بجنوحها إلى الدليل العقلي، وأخرى بتمسكها بالدليل النقلي. ولا يزال الاستقطاب إلى اليوم على أشده حول هذه الثنائية، إما هذا وإما ذاك؟
السمع لا بد له من العقل
ويشيع عن ابن تيمية أنه أبرز من يتمسك بالدليل النقلي، ويرفض الدليل العقلي، غير أن الحقيقة ليست كذلك، فابن تيمية هدم هذه المقابلة، وبين أن القرآن الكريم اشتمل على الدليلين معا : الدليل النقلي = السمعي + الدليل العقلي.
بل قال في وضوح لا يعرفه عنه أكثر خصومه: ” السمع لا بد معه من العقل”[1].
بل بين ما هو أكثر من ذلك، بين أن الأدلة العقلية التي يفرضها الفلاسفة والمتكلمون أكثرها لا يدل على المراد منها؛ إما لتهافتها، وإما لأنها لم تقم الأدلة العقلية على مضمونها، وإما لأنها تدل على مضمونها من طرق بعيدة ووعرة، أما أدلة القرآن الكريم العقلية فهي تدل على مقصودها من أقرب طريق عقلي، يستوي في فهمه جميع العقلاء.
كما بين ابن تيمية أن المقابلة بين الدليل العقلي والدليل السمعي مقابلة خاطئة، وأن المقابلة الصحيحة تكون بين الدليل الشرعي، والدليل البدعي، على أن يشتمل الدليل الشرعي : الأدلة السمعية والأدلة العقلية معًا.
من ذلك قوله : “الشرعي قد يكون سمعياً وقد يكون عقلياً، فإن كون الدليل شرعياً يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه، فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوماً بالعقل أيضاً، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعياً عقلياً.
وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالي عليها في كتابه العزيز، من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة علي توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلي المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية.
وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعياً.[2]
وإليك بعض هذه الأدلة العقلية القرآنية :
1. الدليل القرآني العقلي على البعث
مناط إثبات العقائد الغيبية عند علماء الكلام الذين يعتمدون الدليل العقلي، هو الإمكان العقلي، أي إذا ثبت للعقيدة الغيبية أنها ممكنة عقلا، دلّ ذلك على جواز وقوعها وثبوتها، فيقولون مثلا في إثبات البعث :
البعث الممكن هو : ما لا يلزم من تقدير وجوده محال، والبعث لا يلزم من تقدير وجوده محال = النتيجة = البعث ممكن.
وقد اعتمد القرآن في إثباته للبعث على هذا الدليل العقلي بعد معالجة ما به من قصور وضعف. ووجه قصور هذا الدليل العقلي في علم الكلام، أنه يعتمد على الإمكان العقلي، لا الإمكان الوجودي الواقعي العملي، أمَّا القرآن فقد اعتمد على إمكان البعث وجوديا وواقعيا وعمليا.
ولكن كيف يثبت القرآن إمكان البعث وجوديا، والحال أن البعث لم يقع بعد؟
اعتمد القرآن في ذلك على تنبيه الإنسان بوجود نظير البعث. وعلى تنبيهه بوجود أشياء أقوى من البعث؛ اعتمادا على أن وجود الشيء دليل علي أن ما هو دونه أولي بالإمكان منه.
ثم لم يكتف القرآن بتقرير هذا الإمكان الوجودي، بل زاد عليه إثبات قدرة الله على فعله؛ لأن مجرد العلم بإمكان الوقوع لا يقتضي وقوعه بالفعل ما لم يثبت للإنسان قدرة الله على فعله.
فبين سبحانه هذا كله بمثل قوله: { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا} الإسراء: [99]
وقوله: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} يس: [81]
وقوله تعالى {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} الأحقاف: [33]
وقوله تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} غافر: [57] فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ، وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك.
وكذلك استدلاله على ذلك بالنشأة الأولى في مثل قوله {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} الروم: [27] ، ولهذا قال بعد ذلك: {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} الروم: [27] ، وقال: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم} الحج: [5] .
وكذلك ما ذكر في قوله تعالى: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} الآيات يس: [78ـ82] فإن قول الله تعالى : {من يحيي العظام وهي رميم} قياس حذفت إحدى مقدمتيه لظهورها، والأخرى سالبة كلية قرن معها دليلها، وهو المثل المضروب الذي ذكره بقوله :{وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم}.
وهذا استفهام إنكار متضمن للنفي، أي لا أحد يحيي العظام وهي رميم، فإن كونها رميماً يمنع عنده إحياءها لمصيرها إلي حال اليبس والبرودة المنافية للحياة التي مبناها علي الحرارة والرطوبة.
والتقدير: هذه العظام رميم، ولا أحد يحيي العظام وهي رميم، فلا أحد يحييها.
ولكن هذه السالبة كاذبة، ومضمونها امتناع الإحياء، فبين سبحانه إمكانه من وجوه بيان إمكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه فقال: {يحييها الذي أنشأها أول مرة} وقد أنشأها من التراب، ثم قال: {وهو بكل خلق عليم} [يس: 79] ليبين علمه بما تفرق من الأجزاء أو استحال، ثم قال {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا} [يس: 80] فبين أنه أخرج النار الحارة اليابسة من البارد الرطب، وذلك أبلغ في المنافاة، لأن اجتماع الحرارة والرطوبة أيسر من اجتماع الحرارة واليبوسة، إذ الرطوبة تقبل من ما لا تقبله اليبوسة، ولهذا كان تسخين الهواء والماء أيسر من تسخين التراب.
2.الدليل القرآني العقلي على ثبوت كل كمال لله
كل كمال ثبت للمحدَث أو للمكِن، فالواجب القديم أولى به. وقد ثبت للمحدَث و الممكِن بعض الكمالات، فالله الذي أوجد المحدث والممكن أولى بجميع هذه الكمالات.
قال تعالى منبهاً على هذا المعنى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17]
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا } [الفرقان: 3].
يقول ابن تيمية مقررا هذا الدليل العقلي: ” هذا الواجب القديم الخالق، إما أن يكون ثبوت الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود ممكناً له، وإما أن لا يكون. والثاني: ممتنع؛ لأن هذا ممكن للموجود المحدث الفقير الممكن؛ فلأن يمكن للواجب الغني القديم بطريق الأولى والأحرى؛ فإن كليهما موجود.
والكلام في الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه. فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكناً للمفضول، فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى؛ لأن ما كان ممكناً لما هو في وجوده ناقص، فلأن يمكن لما هو في وجوده أكمل منه بطريق الأولى؛ لاسيما وذلك أفضل من كل وجه، فيمتنع اختصاص المفضول من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه.
بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به؛ فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى؛ ولأن ذلك الكمال إنما استفاده المخلوق من الخالق، والذي جعل غيره كاملاً هو أحق بالكمال منه؛ الذي جعل غيره قادراً أولى بالقدرة. والذي علم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة. والفلاسفة توافق على هذا، ويقولون: كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة، والعلة أولى به”.[3]
[1]– درء تعارض العقل والنقل (1/ 198)
[2] -درء تعارض العقل والنقل (1/ 198)
[3] – الرسالة الأكملية فيما يجب لله من صفات الكمال ، ابن تيمية، (ص: 12)