بالتوكل على الله تتحرر النفس من هموم الحاضر ومخاوف المستقبل. ولأن التوكل من أجلّ مقامات القلوب، فإن تجديد الكلام عنه في هذا الظرف بالذات يخفف عن المسلم المعاصر قلقه وشجونه، ويعيد تذكيره بأن الوقوع في فخ الأسباب زلة توجب الاستغفار، ومسار يهز ثقة العبد بربه حين يبالغ في الاعتقاد بمتلازمة الجهد والثمرة.

غالبا ما تستدعي الذاكرة، عند الحديث عن التوكل، مقارنة نبوية جليلة بين حركة المسلم وحركة الطير في سعيها خلف قوتها اليومي. فعن عمر رضي الله عنه مرفوعا: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا”.[الترمذي 2345.حسن صحيح] غير أن التمثل الذي يغلب على فهم عامة المسلمين، يحصر التوكل على الله في الكسب المادي فقط، تماما كما يحصر مدلول الرزق في الراتب الشهري، أو نسبة الأرباح، أو محصول الزرع. وفي ذلك تحجيم للآثار المترتبة عن التوكل، كخُلق رباني ارتضاه للرسل جميعا قبل الناس.

تضافرت الآيات والأحاديث النبوية التي تشيد بالتوكل، باعتباره ثمرة رسوخ القلب في مقام التوحيد، وشاهدا على الثقة بالله ،وحسن الظن به، والاستسلام له. وفي بيئة جاهلية اعتاد أهلها قتل أولادهم خشية إملاق، اكتسى مقام التوكل أهمية بالغة الأثر في تبديد قلق العربي بشأن رزق الغد، وحصيلة الجهد في بيئة صحراوية قاسية.

ولأن الدين مبناه على التوسط والاعتدال، فإن التوجيه النبوي للصحابة رضوان الله عليهم، لم يخل من إشارة إلى أن التوكل لا يلغي الأسباب ولا ينافي الأخذ بها. فالتوكل عمل قلبي لا يكتمل إلا بحركة الجوارح. وبين السبب والنتيجة هناك مشيئة إلهية، تحدد حجم الثمرة وموعد قطافها. واستشف المسلم آنذاك من هذا التوازن بين حركة الفرد والقدرة الإلهية العليا جوهر الإيمان بالله، وإحدى أجل خصائص دين التوحيد، فتحررت النفوس من هَم المعيشة، وسطر التاريخ أروع قصص التضحية والإيثار، والغرس المحمود لفسائل العمران في محيط أجرد، كان حتى الأمس القريب ساحة للحرب والنهب، وبذل الأرواح من أجل ناقة أو بعير !

بيد أن التوكل شابَهُ سوء فهم منذ أن انكب بعض المتصوفة على تفكيك العلاقة بين العبادات القلبية وكسب الجوارح، فظهرت تعريفات وحكايات تقرن سلوك الطريق إلى الله تعالى بترك الأسباب، وتشيع للأسف جوا من السلبية والكسل الحضاري في دنيا المسلمين، حتى أن أحدهم رأى في إخراج الشوكة المؤذية من القدم طعنا في التوكل!

وبالعودة إلى واقعنا المعاصر، لا يسعنا إلا الحديث عن غربة التوكل، أمام هيمنة واضحة لثقافة الأسباب وتقديس الجهد الإنساني. حيث صارت الأسرة المسلمة رهينة منظومة تربوية وإعلامية، تؤكد حق الفرد في تقرير مصيره، وبناء مستقبله وفق خطط وتصورات منسجمة مع الإرادة الإنسانية، ويضيق فيها هامش الخطأ أو زاوية الانحراف عن المقصد. وما يجري اليوم في مدارسنا وجامعاتنا شاهد على تلك الرغبة الجامحة التي تصطف خلفها أغلب الأسر، لضمان “مستقبل” زاهر لأبنائها، حتى لو تطلب الأمر نسف الحاضر، ومعه الهوية والقيم !

من الآثار النفسية المترتبة عن التوكل نجد: السكينة، والرضا، والعزة، والأمل، والثقة بالله. وهي مفردات تراجعت بشكل ملحوظ أمام يقتضيه سباق العولمة من تنافس محتدم، وأنانية مفرطة، وغايات تبرر كل الوسائل، بما فيها انتهاك المحارم، وتعدي الحدود، وتحطيم النسيج الأخلاقي الذي يضمن لحمة المجتمع وتماسكه. وهذا التراجع خلّف اهتزازا في ثقة المسلم المعاصر بمقام التوكل على الله، وبات الانتحار والقتل والاعتداء بكل صوره الأخرى حصادا يوميا للوثوق الزائد بالأسباب، والجهل بمقام الله تعالى.

إن صورة الطيور وهي تغدو خماصا وتروح بطانا، ليست تعبيرا عن التوكل في جانبه المادي فحسب، بل تمتد لتشمل شقه الدعوي والحضاري كذلك. فحركة المسلم هي جزء من حركة المجتمع بمؤسساته وهيئاته. وحين تكون السيادة لثقافة الجهد المقرون بالتوكل، فإن التعامل مع العوائق وأسباب الإخفاق لا يظل حبيس الانفعال والتذمر، بل يتجاوزه نحو إعادة النظر في الرؤى والخطوات ووسائل العمل. ولعل من أسرار التوكل التي تغفل عنها الألباب أنه مضاد فعال للإحباط والاكتئاب، وصمام أمان حين تتردد خطب الاستسلام و الهزيمة النفسية.

كان من دعاء الإمام سعيد بن جبير رحمه الله:” اللهم إني اسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك”. ولا يكون التوكل صادقا إلا حين يتيقن المسلم بأن الأسباب من نِعم الله تعالى، وأن الأخذ بها لا يُغني عن القدرة الإلهية التي تُكمل للعبد ما عجزت عنه قواه، ثم أن مدار الأمر كله على اتباع الأوامر واجتناب النواهي ليبلغ المتوكل أمانيه، وفي هذا يقول أبو القاسم الجنيد:” لم يبطء على الخلق ما وُعدوا، وإنما تخلفوا عما أُمروا فأبطأ عليهم ما وُعدوا.”